بثّت شبكة شوتايم الأميركية، مسلسلًا من أربعة أجزاء بعنوان “أشباح بيروت”، يروي حياة قائد “حزب الله” العسكري عماد مغنيّة، الذي اغتيل في دمشق في العام 2008. والعمل هو من تصميم الإسرائيليّيْن ليور راز وآفي إسخاروف، صاحبَي مسلسل “فوضى”، الذي تنتجه منصّة نتفلكس عن صراع “وحدة الكرز” في الجيش الإسرائيلي والمستعربين فيها، ضد المقاتلين الفلسطينيين. ولـ”فوضى” شعبية عارمة في الشرق الأوسط، ويتابعه عدد ضخم من المشاهدين. مفاجأة “أشباح بيروت” تكمن في أنّ الإسرائيليَيْن لم يقدّما مغنيّة، الذي كان معروفا باسم رضوان، بصورة سيّئة، بل هما قدّماه في صورة اللبناني الوطني، الذي دفعه شظف الحياة والكراهية التي ولّدتها الاجتياحات الإسرائيلية في نفسه، الى الانخراط في العمل المسلح. هكذا، تظهر زوجة مغنيّة وابنة خالته سعدى بدر الدين وهي تعنّف زوجها لقتاله كمرتزقة لمصلحة الإيرانيين، فيردّ مغنية وهو يصيح “أقاتل للبنان”. كذلك يبدو مسلسل “أشباح بيروت” مرتبكًا في تحديد تفاصيل حياة مغنيّة، خصوصا في حياته ومطلع شبابه، إذ يصوّر أنّ مغنيّة كان يعمل ميكانيكيّ سيارات، وفجأة استدل عليه ضابطان في “الحرس الثوري” الإيراني، وجنّداه ليعمل حليفا لهما في لبنان، وهذا ما يجافي الواقع. فالحقيقة هي أنّ نشاط مغنيّة العسكري سابق لقيام “الحرس الثوري”، وقد يكون هو من المساهمين في تأسيس الحرس، ما يجعله شريكا فيه، على عكس “أشباح بيروت”، الذي يصوّر مغنيّة مستقلًّا عن قائد فيلق القدس في “الحرس الثوري” قاسم سليماني، وندًّا له. كان مغنيّة يعمل بإمرة سليماني، وينفّذ أوامره التي تأتي على شكل “تكليف شرعي”، على عادة “الجمهورية الإسلامية” في إيران. مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعدما أخرجه الأردن من البلاد حفاظا على سيادة الدولة، انتقل زعيم حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات إلى لبنان، وحوّله قاعدة لاستهداف إسرائيل والإسرائيليين حول العالم. قبل اتفاقية القاهرة التي طرحها رئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر على لبنان في العام 1969، والتي أجازت العمل الفلسطينيّ المسلح، كانت أجهزة الدولة اللبنانية، المنسوبة للمرحلة الشهابية تيمّنا برئيس لبنان الراحل فؤاد شهاب، تقمع السلاح الفلسطيني في الداخل اللبناني، وكانت رأس حربة الحفاظ على سيادة لبنان، وحدة تدخّل سريع في الشرطة معروفة بـ “الفرقة 16”، لأنّ رقم اتصال المواطنين بها هاتفيا كان 16. ونكاية بدولة لبنان وسيادتها، عمد الرجل الثاني في فتح خليل الوزير، أبو جهاد، الى إقامة جهاز أمني ضد هذه الفرقة أسماه “أمن الـ 17”، ضمّ فلسطينيين وبعض اللبنانيين المناصرين لهم، وكانت أقلية من هؤلاء من الشيعة، الذين كانت غالبيّتهم تعارض عرفات وعمله المسلح في لبنان. من لبنانيّي “أمن الـ 17” كان شاب من الجنوب اسمه علي ذيب، عمل لدى “الأمير الأحمر” علي، أبو حسن سلامة. ويوم اغتالت إسرائيل سلامة في 1979، برز ذيب وحمل اسم سلامة، وعمد الى تشكيل جهاز حماية شخصيات ممن كان يثق بهم (لتفادي الاختراق الاسرائيلي والاغتيالات)، ومن هؤلاء كان شاب لبناني شيعي في السابعة عشرة من عمره اسمه عماد مغنيّة. إسرائيل اغتالت ذيب في 1999، وكان أصبح من أبرز قادة “حزب الله”. كانت إسرائيل متحالفة مع شاه إيران رضا بهلوي، وهو ما حدا بعرفات إلى فتح أبواب لبنان أمام المعارضة الإيرانية، وإلى تدريب كوادرها عسكريا، وكان في طليعتهم مصطفى شمران، أول وزير دفاع في إيران الإسلامية، والذي لم يتدرج في العسكر، فشكّل ميليشيات مدنيّة مقاتلة، كان بعضها لحماية نظام الخميني الفتي، مثل الباسيدج والباسدران، وبعضها الآخر لقتال العراقيين على الجبهات. كان شمران من أصدقاء ذيب ومغنيّة وأنيس النقاش، وهذا لعب دور الرجل الثاني في عملية خطف وزراء أوبيك في فيينا في 1975، إلى جانب كارلوس. لجأ شمران وحرسه الثوريّ إلى رفاق السلاح في لبنان، الأكثر حنكةً منه، ولما أرادت طهران التخلص من آخر رئيس حكومة في زمن الشاه شهبور بختيار في باريس، طلبت من النقاش إدارة العملية التي تعثّرت وأدت الى سجنه بين 1980 و1990. وفي غياب النقاش، صعد نجم ذيب ومغنيّة كرجال ارتكاز “الحرس الثوري” في لبنان، خصوصا مغنيّة، الذي أظهر ذكاءً حادًا. في الأثناء، أجبر نفي صدام حسين لروح الله الخميني من النجف إلى باريس، ثم قتلُه مؤسّس “حزب الدعوة الإسلامية في العراق” محمد باقر الصدر في 1980، إلى هروب رجال الدين الناشطين سياسيُّا من العراق، وكان منهم محمد حسين فضل الله، ابن خالة عائلة الحكيم الدينية المعروفة والمسانِد للدعوة، ومنهم أيضا عباس الموسوي وحسن نصر الله، الأمينان العامّان الأول والثالث لـ “حزب الله”. تشكّلت حول فضل الله مجموعة حملت صبغة “حزب الدعوة”، فحاولت ميليشيا البعث العراقي في لبنان مطاردتها، فما كان من مغنيّة إلا أن قدّم لها الحماية، مستعينا بعلاقاته بحركة فتح، وصارت بين مغنيّة وفضل الله صداقة. أما نصر الله، فانتسب لحركة أمل الشيعية، التي كانت، مع حليفها حافظ الأسد رئيس سوريا، تعارض عرفات والعمل الفلسطينيّ المسلح في لبنان. تحالف أمل سوريا ومغنيّة فتح وإيران، وهؤلاء كلهم كانوا يعادون صدّام، نجح في القضاء على ميليشيا البعث العراقي في لبنان. وفي 1981، نفّذ مغنيّة أولى العمليات التفجيرية التي صارت تحمل توقيعه، فدخلت شاحنة مفخخة يقودها انتحاري، مبنى السفارة العراقية في الرملة البيضاء، وانفجرت، وكان من بين القتلى بلقيس الراوي، زوجة الشاعر السوري الشهير نزار قباني، الذي رثاها في ديوان شعري حمل اسمها. تفجير السفارة العراقية يغيب تماما عن مسلسل “أشباح بيروت”، ربما بسبب الاضطراب الأميركي وعدم فهم علاقة فضل الله بالدعوة، وفضل الله بمغنيّة. اعتقدت واشنطن أنّ فضل الله هو الأب الروحي لمغنيّة، وأنه هو الذي أمره بشن تفجيرات ضد أهداف أميركية، وخطف وقتل أميركيين، فحاولت الولايات المتحدة الثأر بتفجيرها عبوّة استهدفت فضل الله في بئر العبد في 1985. لكنّ فضل الله لم يكن شريكا في الأعمال الحربية، بل في التصريحات السياسية فحسب، وهو يوم أعلن رسالته مجتهدا، غضبت عليه إيران الإسلامية، لأنّ مجتهد الشيعة واحد، بحسب نظرية “الحكومة الإسلامية”، وهو المرشد الأعلى في إيران، أي علي خامنئي اليوم. أتبع مغنية تفجير السفارة العراقية بأربعة تفجيرات في لبنان، متطابقة في أسلوبها: (شاحنة مفخخة يقودها انتحاري)، استهدفت السفارة الأميركية في بيروت، ثم مقر قوات حفظ السلام المارينز، وفي اليوم نفسه، القوة الفرنسية لحفظ السلام، وكل هذه كانت في العام 1983. وفي العام نفسه، أمر مغنية مصطفى بدر الدين، ابن خالته وشقيق زوجته، بتنفيذ هجوم انتحاري مشابه ضد السفارة الأميركية في الكويت. ومن مجموعة هجمات الكويت كان شاب عراقي اسمه جمال الجراح، صار معروفا بلقب أبو مهدي المهندس، ولقي حتفه صدفة يوم قتلت الولايات المتحدة سليماني في بغداد في 2020. التفجير الخامس الذي نفّذه مغنيّة في لبنان قُتل فيه رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري في 2005. صحيح أنّ اسم مغنيّة لم يرد في الحكم الصادر عن محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة، والذي أثبت تورط ستة أعضاء من “حزب الله” في التفجير، إلا أنّ القائمة الأممية اتهمت بدر الدين، وهذا دليل صريح على تورط مغنيّة، يضاف إلى أسلوبه (شاحنة انتحارية مفخخة). لو كان مغنيّة يعمل لمصلحة لبنان، فما داعي مهاجمة أميركا، وتفجيرات الكويت، عدا عن محاولة طهران معاقبة الاثنين لتأييدهما صدام حسين في حربه ضد نظام إيران؟ ولو كان مغنيّة يعمل لمصلحة لبنان، فما داعي إرساله علي موسى دقدوق للعراق لتجنيد عراقيين، من أمثال زعيم ميلشيا “عصائب أهل الحق” العراقية الموالية لإيران قيس الخزعلي؟ وما داعي انخراط دقدوق في هجمات قتلت جنودا أميركيين في العراق؟ لم يكن لبنان يوما في حسابات “الحاج رضوان” أو أولوياته. لبنان كان خانة على لوحة الشطرنج التي تحاول إيران الإسلامية اكتساحها والسيطرة عليها. لو كان مغنيّة وطنيا لبنانيا، لما اغتالته في دمشق أميركا وإسرائيل، بحسب مسلسل “أشباح بيروت”. هو مسلسل يحاول، ربما عن غير قصد، تجميل صورة رجل عاش بالسيف ومات بالسيف.للمزيد عدد حلقات المسلسل اللبناني كريستال ممثلين مسلسل كريستال اللبناني (المشهد)