لا علاقة بأيٍّ من التصاريح التي تصدرها إدارة الرئيس جو بايدن بالأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، ولا في الحرب في غزة، ولا نصف الحرب الدائرة في لبنان. كل تصريحات إدارة بايدن وسياساتها معدّة لخدمة إعادة انتخابه لولاية ثانية، حيث تقوم الإدارة بتجنيد كل طاقاتها وتسخير كلّ مواقفها في خدمة إعادة الانتخاب.تصريحات إدارة بايدن متناقضةلهذا السبب، تأتي تصريحات إدارة بايدن متناقضة، كلّ منها مخصص لمجموعة ناخبة معينة من قاعدة الحزب الديموقراطيّ والناخبين المستقلين. لمؤيّدي إسرائيل، يسير بايدن خلف الكونغرس وتشريعاته التي تمنح إسرائيل نحو 15 مليار دولار، بل إنّ بايدن حاول إلصاق تشريعات متعثّرة بالتشريع المخصص لإسرائيل، لعلمه أنّ للدولة العبرية شعبية جارفة في الكونغرس بمجلسَيْه. ولمؤيّدي الفلسطينيّين، استصدر بايدن تشريعات لتمويل مساعدات إنسانية لقطاع غزة، ترافقت مع بعض التصريحات التي حمّلت إسرائيل، من دون قول ذلك علانية، مسؤولية ارتفاع عدد الضحايا بين سكان القطاع.وبين استرضاء إسرائيل وخصومها الفلسطينيّين، لا تنسى إدارة بايدن استرضاء النظام الإيرانيّ ذي النفوذ الواسع بين صفوف اليسار المتطرف داخل الحزب الديمقراطي، والممثل بأعضاء في مجلس الشيوخ، من أمثال بيرني ساندرز، وكريس مورفي، وكريس فان هولن. وبين هذه المواقف المتناقضة، راح وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن يزور عواصم الشرق الأوسط، مواصلًا تقديم سياسة ”خبط عشواء“ البايدنيّة، بما فيها من تناقضات لا تسمح لها بأن تتحول إلى سياسة متماسكة وواضحة. في رام الله، شدد بلينكن على حلّ الدولتين، وفي العواصم العربية، حثّها على الاستعداد للعب أدوار رئيسية مباشرة لإعادة بناء قطاع غزة، لا لبنائه عمرانيًا فحسب، بل بناؤه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، واجتثاث الفكر الإسلامويّ المتطرف الذي يحكم منذ العام 2007. ولو كان بلينكن فعليًا يدعم قيام السلطة الفلسطينية بدور إعادة إعمار غزة وتوحيدها، لما كان طلب من العواصم العربية القيام بأدوار مباشرة لإنقاذ الفلسطينيّين من أنفسهم، بل كان طالبهم بدعم السلطة وتركها تتكفّل بالموضوع.على أنّ السلطة هي نفسها التي خسرت القطاع قبل 17 عامًا، وهو ما دفع كثيرين للإحجام عن المراهنة عليها لدور متجدّد بعد نهاية الحرب الدائرة في غزّة اليوم، إذ يندر أن يُلدغ المؤمن من الجحر نفسه مرتين.على مدى العقدين الأخيرين، ساهمت ثورة وسائل التواصل بتحويل الديمقراطية الأميركية من مستقرة إلى منقسمة على نفسها، وعرضة لأعاصير سياسية متواصلة. هذه الأعاصير حوّلت السياسات المبنيّة على إستراتيجيات واضحة وطويلة الأمد، إلى سياسات مبنية على تصريحات وخطوات قصيرة ومتقلّبة ومتناقضة، حالها حال الرأي العام الذي تحوّل من الصحافة الرصينة والدراسات والأبحاث، إلى تعليقات على شكل أسطر على مواقع التواصل الاجتماعي.غياب سياسات أميركية واعية ورصينةالولايات المتحدة لم تتراجع في قوّتها، فهي اليوم ما تزال بذروة قوتها نفسها في الثمانينيات والتسعينيات، ولا يزال حجم اقتصادها يناهز ربع حجم الاقتصاد العالميّ بأكمله، وما تزال قوتها العلمية والعسكرية الأولى من دون منازع. لكنّ الفارق اليوم، أنّ قادة الولايات المتحدة لم يعودوا يقدّمون سياسات واعية ورصينة، بل تصريحات قصيرة للاستهلاك المحلّي. بعد نجاح الثورة الإيرانية في قلب نظام شاه إيران في 1979، خشيت واشنطن أن تستغلّ روسيا الشيوعية اهتزاز الحكم في طهران، لتجتاح إيران وتصل إلى مياه الخليج، وتهدّد ثرواته النفطية، عصب الاقتصاد العالمي. كان كارتر في السنة الأخيرة من ولايته الأولى، لكنّ التحديات التي واجهها في إيران دفعته إلى مواجهة نظام الخميني، وقامت إدارته بإعداد إستراتيجية عسكرية للتدخل السريع في الخليج، صار اسمها "عقيدة كارتر"، وقرن الرئيس الأميركيّ خطّته بالسّماح للجيش باستخدام أسلحة نووية تكتيكية شمال إيران، لمنع أيّ اجتياح سوفياتيّ محتمل. لأنّ تلك السياسات كانت تحصل قبل الفورة الإعلامية التي نعيشها اليوم، لم يخش كارتر ردود فعل هذا الجناح أو ذاك داخل حزبه الديمقراطي، ثم خسر معركة إعادة الانتخابات، لا بسبب سياسته الخارجية، وإنما لتعثّر الإقتصاد.اليوم، الاقتصاد الأميركيّ في أحسن حالاته، وهو ما يعطي بايدن أفضلية هائلة لإعادة انتخابه. لكنّ الفورة الإعلامية وضعت كلّ تصريح وكلّ خطوة تحت مجهر الناخبين، ولهؤلاء مصالح وآراء متضاربة، وهو ما أدى إلى شبه شلل في القوة الأميركية حتى تنقضي الفترة الانتخابية.لحسن الحظ، تمنح الولاية الثانية أيّ رئيس أميركيّ يفوز بها، 4 سنوات من المناعة من آراء الأميركيّين، ويباشر الرئيس الأميركيّ في تنفيذ ما يعتقد أنّ من شأنه أن يرسم شكل صورته للتّاريخ. في حال الرئيس السابق باراك أوباما، أطلقت الولاية الثانية يدَيه للانفتاح على طهران، رغمًا عن أنف المعارضة العنيدة في الكونغرس من الحزبين، بما فيه حزبه الديمقراطي. لكنّ أوباما نفّذ ما كان يدور بخلده، وما فعله صار اليوم تحت حكم التاريخ.كذلك بايدن، في حال فوزه بولاية ثانية، فسيتقلص اهتمامه بآراء الكتل الناخبة، وسيمضي في تنفيذ ما يعتقده الأصح، والذي يكرّس صورته للتاريخ.ومن حسن الحظّ أيضًا، أنه في حال فوز منافس بايدن دونالد ترامب، سيكون الأخير أيضًا في ولايته الثانية، ولن تعيق سياساته الآراء المتضاربة لقاعدة مؤيديه.بغضّ النظر عن اسم الرئيس الأميركيّ المقبل، هناك مشكلة في الديمقراطية الأميركية تفرض شللًا، خصوصًا في السياسة الخارجية، على كل رئيس في ولايته الأولى. ربما على الأميركيّين تعديل الدستور، وتحويل الولاية الرئاسية الى واحدة غير قابلة للتجديد، مدّتها 6 سنوات. لكنّ تعديل الدستور في هذا الزمن أمر شبه مستحيل، وهو ما يعني أنّ العالم سيستمرّ في المعاناة من سياسة أميركا الخارجية، خصوصًا في سنتها الانتخابية في ولاية الرئيس الأولى.