شرعت اللجنة المتخصّصة صلب البرلمان التونسي، في مناقشة مشروع قانون لتعديل المرسوم عدد 13 لسنة 2022، المتعلق بالصلح الجزائيّ المقدم من طرف رئاسة الجمهورية، والذي يتضمن تنقيحات مهمّة، بغرض تيسير استرجاع الأموال التي استولى عليها عدد من رجال الأعمال بطرق غير شرعية، بغاية تحويلها إلى مشاريع لفائدة المصلحة العامة.وقد فرضت هذه التعديلات نفسها، بعد تقييم عميق لحصيلة عمل لجنة الصلح الجزائيّ المحدّثة بموجب المرسوم السالف الذكر، والتي لم تتوصل إلى جمع مبالغ مالية في مستوى حجم الضرر الذي لحق بالدولة التونسية، من جرّاء عمليات نهب ماليّ تواصلت لعقود، وتحولت إلى ملفات جزائية مفتوحة أستعملها حكم "الإخوان" للابتزاز والمقايضة، من دون أن يتمّ البتّ فيها جوهريًا.وباعتبار أنّ الغاية من هذا القانون هي إحلال مفهوم العدالة التصالحية محلّ الأحكام القضائية السالبة للحرية، فإنّ رئيس الجمهورية قد باشر إجراء تعديلات مسّت عديد الفصول، للموازنة بين حقّ الدولة في استرداد أموالها، وبين إيجاد أنجع الآليات التطبيقية الضامنة لتحقيق الهدف.وجدير بالذكر أنّ جوهر قانون الصلح الجزائيّ لم يشمله أيّ تغيير، وهو تحويل الأموال والمشاريع التي تقدرها اللجنة المخوّلة بإجراء الصلح إلى الخزينة العامة للبلاد التونسية، على أن تخصص نسبة 80% منها، لفائدة مشاريع تنموية وذات علاقة بالمصلحة العامة، فيما يتم تخصيص نسبة 20% المتبقّية، للجماعات العمومية المحلية بغرض تمويل الشركات الأهلية والمشاريع الصغرى. ملف دولة بامتيازتمحورت أبرز التعديلات المقترحة على مجلس نواب الشعب، في أنّ لجنة الصلح الجزائيّ تعرض أعمالها وجوبًا على مجلس الأمن القومي، الذي بحق له قبول أو رفض أو تعديل عقد الصلح، بما يتناسب مع حجم الضرر الذي لحق بالمصلحة العامة.وهذا يعني بالنتيجة أنّ مسألة استرداد الأموال صارت موكولة إلى الأجهزة السيادية للدولة، لتفادي أيّ نزوع إلى الابتزاز والمقايضة والمغالطة، وضمان عدم الانحراف بالمسار التصالحيّ إلى ما يناقض أهدافه الحقيقية.ومع ذلك تضمّن مشروع القانون تسهيلات مهمة لفائدة المشمولين بالصلح، منها إيقاف أيّ تتبّع أو محاكمة أو عقوبة سجنية، بمجرد إبرام عقد اتفاق جزئيّ بدفع 50% من المبالغ المحددة، وكذلك تمتيع طالب الصلح بحقّ التفاوض في المبالغ المالية المطالب بها بموجب الفصل 25 من مشروع القانون اللجديد. أفق جديدة لمصالحة عادلة هذا وقد أكد الرئيس قيس سعيّد في مناسبات مختلفة، على أنّ الهدف من هذا القانون ليس التنكيل برجال الأعمال، بل استرجاع أموال الدولة وفسح المجال أمام الجميع، للمبادرة والاستثمار بعد توضيح الوضعية القانونية وضمان عودة الحقوق إلى أصحابها. وتظل العدالة بالمعنى التصالحيّ، هي الإطار الحقيقيّ الأمثل الذي يحلّ بديلًا عن الأحكام السجنية التي لن تجني منها المجموعة الوطنية فائدة تُذكر.والواقع أنّ الرئيس قيس سعيّد، قدّم أكثر من مبادرة لتنقية المناخ العام، وتوسيع منظومة التصالح والعفو، ومنها تأكيده ضرورة تنقيح الفصل411 من المجلة التجارية، بغاية إلغاء العقوبة السالبة للحرية في قضايا الصكوك البنكية -الشيكات من دون رصيد- هذا الى جانب ما أقرّه قانون المالية لسنة 2024، من إعفاءات تخصّ الخطايا الجبائية للأشخاص والشركات.إنها خطوات جديدة ترسم أفقًا لتعميم مناخات العمل والإنتاج خارج فكرة التشفّي والانتقام، لكنها تتجه أيضًا إلى ترسيخ ثقافة تحمّل المسؤولية، وعدم التهرب من المساءلة والمحاسبة في إطار قانونيّ مساواتي، لا يفاضل بين التونسيّين، ولا مكان فيه للمحاباة.لقد فُتحت كل الملفات في تونس بغضّ النظر عن مكانة الأشخاص ومناصبهم وولاءاتهم السياسية، بغاية تفكيك إرث متراكم من الفساد السياسيّ والماليّ والإداري، لكن باب طيّ صفحة الماضي يظلّ مفتوحًا أمام الجميع، إلّا من تلوثت أيديهم بدماء التونسيّين.