لم تكد تُقلع طائرة الوفد الديبلوماسي والعسكري الأميركي، الذي شارك في لقاءات العمل السنوية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الأسبوع الماضي، حتى قصف "الحرس الثوري الإيراني" سفينة في الخليج العربي تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي.لم يردع إيران البيان الذي تحدث عن التكامل العسكري بين القيادة الوسطى للجيش الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة الخليجيين في التصدي لإيران وحماية أمن الخليج العربي. في أقل من 24 ساعة على صدور البيان، قصف النظام الإيراني السفينة التجارية في الخليج، وهو اعتداء عسكري ليس على سفينة مدنية فحسب، بل على الملاحة البحرية في هذه البقعة من العالم. مع كل ضربة من هذا النوع، ترتفع تكاليف التأمين البحري، وهو ما يرفع تكلفة المواد التجارية التي تمر في الخليج العربي ويقتطع من عائدات النفط والغاز للدول التي تصدّره بناقلات. وهذا مثال صغير على الفشل الأميركي الذريع في فرض استقرار أمني على هذه المنطقة الاستراتيجية للاقتصاد العالمي بأكمله.أما الغطرسة الإيرانية، فيمكن تبيان أسبابها مما ورد في البيان الختامي للقاءات العمل.بعد شجب وإدانة واستنكار ضد النظام الإيراني، على طراز بيانات الشجب الخشبية التي تصدر عادة عن لقاءات الجامعة العربية، وبعد انتقاد نظام طهران لرعايته الإرهاب ولاستخدامه الطائرات من دون طيار والصواريخ في هجماته التي يشنها في عموم المنطقة، ورد في ختام البيان فكرتان أساسيتان لا شك أنهما شجعتا نظام الملالي على التمادي في الاعتداء على الملاحة البحرية في الخليج.الأولى مفادها أن واشنطن ترى أن” الدبلوماسية هي الطريقة المفضلة للتعامل مع سياسات إيران المزعزعة للاستقرار والتصعيد النووي“. يمكن الملاحظة هنا أنه تم توسيع الخيار الديبلوماسي في التعامل مع النظام الإيراني لتشمل، فضلا عن الملف النووي،” سياسات إيران المزعزعة للاستقرار“، وهي العبارة التي تستخدمها الإدارات الأميركية لوصف رعاية إيران لميليشيات تصنفها واشنطن إرهابية، مثل ”حزب الله“ اللبناني و“كتائب حزب الله“ العراقية.حتى إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، التي وقعت الاتفاقية النووية مع إيران، فصلت بين إيران النووية وإيران الإرهابية، فاعتبرت أن الديبلوماسية هي في الملف النووي فقط. أما في الملفات الأخرى، فالتعامل مع طهران لم يكن مقتصرا على الديبلوماسية، بل كان يتضمن أدوات أخرى منها استخباراتية وعسكرية.أما الفكرة الثانية في البيان التي يجدر التوقف عندها فهي التالية: أكد المجتمعون أن القيادة الإيرانية يمكن أن تختار سياسات أفضل، من شأنها أن تساهم في منطقة أكثر أمنا واستقرارا وتفيد الشعب الإيراني“. هذه الفكرة تؤكد أن واشنطن لا تزال متمسكة برؤية أوباما بأن نظام إيران قادر على ”تغيير تصرفاته“، وأن رفع العقوبات عنه يدفعه في هذا الاتجاه. طبعا قُيِّضَ لأوباما أن يرفع العقوبات عن إيران، وانخرطت الأخيرة في صفقات مع أوروبا وأميركا بقيمة 30 مليار دولار مع كل منها، وكانت عبارة عن شراء طهران طائرات مدنية وقطع غيار من شركتي إيرباص الأوروبية وبوينغ الأميركية العملاقتين.استخدام إيران للطائرات المدنية التي حصلت عليها من أموال رفع العقوبات تمحور حول نقل مقاتلي ميليشياتها،"مثل لواء فاطميون الأفغاني"، للاشتراك في الحرب السورية، ونقل أسلحة وعتاد حربي جوا إلى دمشق وبيروت ليد ”حزب الله“ وغيره. لم يغتنم النظام الإيراني فرصة تحسن علاقاته مع أميركا والغرب بين 2016 و2018لتعديل تصرفاته وعودته إلى الأسرة الدولية، بل استخدم أمواله المفرج عنها للإمعان في دعمه الميليشيات الإرهابية والاعتداء على جيرانه.هذه المرة، بعد قتل النظام الإيراني مئات المتظاهرين المطالبين بالتغيير داخل إيران منذ سبتمبر الماضي، وبعد التجربة الفاشلة إبّان رفع العقوبات في المرة الماضية، لا تزال واشنطن مصرّة على أن طهران قادرة على تغيير تصرفاتها. لا تعرف الإدارة الأميركية أن نظام طهران لا يتغيّر: إما يرحل أو يبقى على ما هو عليه، نظام عنفي قائم على التسلط على الجيران ودعم الإرهاب والتخريب أينما وصلت يديه.أما السؤال فهو التالي: من وضع هذه العبارات في البيان، فأوحى لنظام إيران أن واشنطن لاتزال غير جديّة في التصدي له، وأنه يمكنه مهاجمة أي سفينة من المحيط إلى الخليج العربي؟الإجابة هي أن هذه الأفكار تعود للمسؤول الأميركي عن الملف الإيراني روبرت مالي. الأخير لا صلاحية انتهاء له، لا يحترق ولا يغرق، حاضر في كل الإدارات الديمقراطية الأميركية منذ زمن الرئيس السابق بيل كلينتون، وبعده باراك أوباما، واليوم جو بايدن.ومالي هذا يبدو أنه مبعوث خاص حول إيران، لكنه في الواقع عرّاب كل الفريق المولج السياسة الخارجية في الإدارة الحالية، بما في ذلك وزير الخارجية انتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان. أما تبوء مالي مناصب متدنية فسببه، استحالة فوزه بمصادقة الكونغرس لأي منصب رفيع، فهو لا يتمتع بشعبية لدى الحزبين في واشنطن.والمشكلة في مالي أنه عقائدي غير واقعي، يرى أن مشكلة العالم هي في قوة أميركا وحلفائها، وأن العالم سيكون مكانا أفضل في حال انسحبت هذه القوة وتراجعت، وأن مشكلة إيران هي تدخل الغرب في شؤونها، كما حصل في الانقلاب ضد محمد مصدق قبل 70 عاما!في الولايات المتحدة، غالبا ما يتم إطلاق اسم الرئيس على سياسته الخارجية وتسميتها عقيدة، مثل عقيدة كارتر، وعقيدة ريغان، وعقيدة بوش. أما في الإدارات الديموقراطية الثلاث الماضية، فعقيدة واحدة تسيطر عليها، وهي”عقيدة مالي“، لذا تبدو سياسات الإدارات الديموقراطية المتعاقبة بنفس السوء، بغض النظر عمّن يشغل البيت الأبيض. إيران تفهم سياسة واشنطن جيدا، وهي قرأت بيان الأسبوع الماضي بتمعّن، وأدركت أن مالي ما زال يحميها، وأنها في حِلّ من القوانين الدولية أو أي عقاب أميركي.