حوّلت الحرب الأهلية التي دامت بين عامي 1975 و1990 لبنان إلى مسرح لحروب إقليمية ودولية استعرت على أرض بلد صغير بالكاد تجاوزت مساحته 10 آلاف كيلومتر مربع. هذه الحرب سماها البعض "حربا أهلية"، وسماها البعض الآخر "حرب الآخرين على أرض لبنان"، فيما قد تكون من الناحية الواقعية مزيجا من الحربين اختلطتا وذهبتا بأرواح 200 ألف من اللبنانيين والفلسطينيين، ودمرتا بلدا كان يطلق عليه اسم "سويسرا الشرق"، فأصبح لبنان بلدا منكوبا، مدمرا، وشرائح واسعة من أبنائه من البيئات المختلفة مشردين في أصقاع العالم طلبا للسلامة والرزق في آن واحد. ولم يخرج لبنان الذي انزلق إلى جهنم حرب داخلية إقليمية ودولية من هذه الحالة، إلا بعدما دارت الدائرة على جميع الأفرقاء المتقاتلين على الأرض، واقتنع معظمهم أن الانتصار مستحيل، وأن استمرار التقاتل لن يوصل إلى مكان عدا الخراب التام والخسارة العميمة المديدة. وقد حصل اتفاق إقليمي - دولي دفع بالأطراف المحليين إلى الجلوس على طاولة التفاوض، واجتراح تفاهمات سياسية وصيغة دستورية جديدة (اتفاق الطائف) كانتا بمثابة الإطار الذي يغلّف اتفاق انهاء الحرب في لبنان. وانتهت "الحرب الأهلية" أو "حرب الآخرين على أرض لبنان" منذ أكثر من 32 عاما، وها هو لبنان اليوم على موعد مع أزمة لا تقل عنفا من السابقة، انما بأشكال أخرى، وربما أكثر مضاضة من هدر الدماء في الطرقات. فالأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي انفجرت في 17 أكتوبر 2019، لا سابق لها، لا من ناحية شراستها، ولا من ناحية عمقها وتأثيرها على الشعب اللبناني. غير أن الأزمة المالية والاقتصادية ليست وحيدة في الوضع اللبناني المأزوم. ولبنان الذي كان على موعد مع انتفاضة الاستقلال إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في فبراير 2005، فشل لأسباب عدة لا مجال للخوض فيها هنا في التقاط فرصة تحرير لبنان من الوصاية السورية، والذهاب مباشرة إلى إنجاز عقد وطني يجدد صيغة التنوع، والتعدد، والعيش المشترك، والسلم الأهلي الدافئ، كان من شأنه أن يحمي الحياة الوطنية المشتركة في مجتمع متعدد الطوائف، ويشكل جدارا عازلا يحول دون "اجتياح" أزمات الإقليم هذا البلد الحساس للغاية إزاء ما يحصل في الإقليم. والحال أن تفويت اللبنانيين عام 2005 فرصة تاريخية كان يمكن أن ينشأ بموجبها وطن أكثر صلابة من ذي قبل، وأقل تأثرا بالصراعات الخارجية أدّى إلى إقحامه مرة جديدة في قلب عواصف من الصراعات الخارجية. ولعل السبب الرئيس الذي حال دون تحييد لبنان عن الصراعات ومنحه فرصة ليلتقط أنفاسه ويتجه صوب إعادة بناء الكيان، والحياة الوطنية والاجتماعية المشتركة، كان مرده تنامي قوة "حزب الله" ونفوذه، وقدرته على إدارة لعبة العنف الداخلي ضد خصومه في السياسة. وتنامي قدرة هذا الحزب كان معناه المباشر تنامي نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على اعتبار أن الحزب المذكور كان منذ نشوئه ذراعا إيرانية مقرها لبنان وإن تكن بيئته الشعبية لبنانية الهوية. وكانت حرب 2006 بين إسرائيل و"حزب الله" نموذجا صارخا على حجم الجهد الذي وضع في سبيل ربط لبنان عنوة بلعبة المحاور، نظرا لأن الغالبية الشعبية والبرلمانية في تلك المرحلة كانت تحذر "حزب الله" من افتعال حرب مع إسرائيل يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة على مجمل وضع البلاد. مع ذلك، ذهب الحزب المشار إليه إلى حرب في منتصف يوليو 2006، ليعود وينقلب على خصومه السياسيين في الداخل، مستخدما العنف بأشكال عدة لتحقيق غلبة ترجمتها سياسية داخلية. كان أحد جوانب النقاش الوطني اللبناني على الدوام يتركز حول مسألة إقحام لبنان في سياسة المحاور الإقليمية أو الدولية. وكان أساس الموضوع بشكل عام يتمحور حول تدخلات الذراع الإيرانية المحلية في لبنان بالأزمات الإقليمية. حصل هذا الأمر منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011، وازداد مع إعلان "حزب الله" عن قراره الرسمي بالتورط في الحرب هناك، داعيا من يعارضه في الداخل أن يذهب إلى سوريا وينازله على أرض المعركة! ثم تشعّب التورط انطلاقا من لبنان، من خلال تدخلات متنوعة في الوضع البحريني الداخلي، ثم في جملة من الأعمال ذات الطابع الأمني في العديد من دول منطقة الخليج، وصولا إلى حرب اليمن. هذا الخيار أسهم إلى حد بعيد في إقامة جدار بين لبنان وحاضنته العربية. وفشلت جميع المحاولات المحلية لإقناع "حزب الله" بالعودة إلى الداخل وحل قضية سلاحه الذي فقد دوره الأصلي. ولم تنجح الضغوط السياسية المحلية في منع "ذراع إيران" من إقحام لبنان في الصراعات التي لا ناقة له فيها ولا جمل، هي التي أصابت الواقع اللبناني بعطب كبير نتيجة تحول لبنان إلى منصة سياسية، أمنية، عسكرية، إعلامية تدار لمصلحة المشروع الإيراني ضد الشرعية العربية. في عز أزمة جائحة "كورونا" وفيما كانت البلاد شبه مقفلة خرج البطريرك الماروني بشارة الراعي داعيا إلى عقد مؤتمر دولي وإعلان حياد لبنان الناشط. وقد أتت دعوة البطريرك الراعي هذه كنتيجة لتقدير الكنيسة المارونية بأن لا حلول محلية تُرتجى بمواجهة سلاح محكوم من الخارج. من هنا التوجه نحو الخارج للاتفاق ضمن إطار دولي وإقليمي على تحييد لبنان عن جميع الصراعات، من أجل منحه فرصة للعيش بشكل طبيعي، ووقف مساره الانحداري المخيف. كثيرون في لبنان من جميع المكونات الوطنية يؤيدون دعوة البطريرك الماروني، ويعتبرون أن لبنان في حاجة إلى حل متكامل ببعدين داخلي وخارجي متقاطعين. حيث يجب إقناع الأطراف المعنية بلبنان، ولا سيما إيران أنه حان الوقت لوقف استخدام هذا البلد الصغير المرهق كجزء من مشروع للصراع مع الآخرين. إن لبنان الذي جرى إيقاف الحرب فيه قبل 3 عقود من خلال تفاهمات داخلية، إقليمية ودولية يحتاج اليوم إلى تفاهمات شبيهة تخرجه من دائرة الصراعات التي لا طائل منها. وإن الأمثلة الناجحة للحياد بين القوى والصراعات عديدة، من سويسرا إلى النمسا وغيرهما. لبنان بصيغته التعددية ودقة توازناته ربما يستحق أن يلتحق بركب الحياد والسلام ليتفرغ لنفسه قليلا.