في لبنان فئة – من المسيحيين خصوصًا – تعتقد أنّ الحلّ الأمثل يكمن في تحويل الجمهورية إلى نظام فيدرالي يسمح لكل منطقة حكم نفسها ذاتيًا، وتحمّل مسؤولية خياراتها. هذا اعتقاد خاطئ وخيار لا يغير في الوضع القائم شيئًا، بل يبدو أنّ أصحاب الاقتراح لم يعيشوا أبدًا في ظل نظام فيدرالي ولا هم اعتبروا من التجارب الفيدرالية الفاشلة في دول الجوار، العراق مثالًا.3 سلطاتالفيدرالية هي نظام الحكومة في الولايات المتحدة. لكل واحدة من الولايات الـ50 سلطات ثلاثة: تشريعية على شكل كونغرس محلي منتخب يتألف من مجلسي شيوخ ونواب.تنفيذية يرأسها حاكم الولاية ويدير وزاراتها وميزانيتها وشرطتها وجيشها (الحرس الوطني).قضائية تتألف من محكمة عليا يتم انتخاب أعضائها ومحاكم ولاية. النموذج أعلاه يبدو مغريًا لبعض المجموعات السكانية في لبنان. يمكن إقامة لبنان المسيحي ولبنان الدرزي وغيره من دون تقسيم لبنان إلى دول مستقلة. على أنّ المشكلة تكمن في أنّ الحكم الذاتي لا يمكنه أن يحل بديلًا عن السيادة، وفي حالة فدرلة لبنان، تبقى السيادة وأمور كثيرة ترتبط فيها بإمرة الحكومة المركزية. وطالما تسيطر على المركز ميليشيات، مثل منظمة التحرير الفلسطينية ماضيًا و"حزب الله" حتى الماضي القريب، لا يمكن للفيدرالية فصل مسار الولايات عن بعضها البعض. مشكلة الفيدرالية في لبنان أنّ الأمور التي يسعى الفيدراليون للاستقلال فيها عن باقي اللبنانيين، تبقى على حالها، بما فيها شؤون الجنسية والنقد والسياسات الخارجية والدفاعية والاستخباراتية. في الولايات المتحدة، يمكن لأيّ مواطن أميركي أن ينتقل من أيّ ولاية لثانية، وكل المطلوب منه هو مراجعة دائرة تسجيل رخص القيادة لاستبدال رخصة قيادته ولوحات السيارة. في الحالة اللبنانية، يمكن لعشرات الآلاف من غير المسيحيين الانتقال إلى المناطق المسيحية، فيصبحون مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، وتصبح مشاركتهم في الانتخابات الداخلية ممكنة. الفيدرالية، إذن، لا حدود فيها بين الكتل السكانية بل حدود إدارية فحسب، وهذه أول مشكلة تعني أنّ التقسيم الفيدرالي لا يحمي التجانس المذهبي داخل المنطقة الواحدة، مثلما كانت خطوط التماس في الحرب الأهلية تحدد الجيب المسيحي وتبقيه على تجانسه.مشكلة النقدثانيًا، مشكلة النقد. لا يمكن لأيّ حكومة محلية إصدار عملة محلية، ما يجبرها على الاستناد إلى المصرف الفيدرالي المركزي. وفي غياب السياسة النقدية، تصبح عملية توجيه الاقتصاد أصعب، إذ إنّ المركزي هو الذي يحدد حجم الكتل النقدية المتداولة وأسعار الفائدة ومواعيد تحفيز الاقتصاد، بخفض الفائدة، أو لجم التضخم، برفعها. مشكلة النقد هي عقبة واجهتها كل من اسكتلندا وكاتلونيا في محاولتي انفصاليهما عن بريطانيا وإسبانيا، على التوالي، خصوصًا اسكتلندا، التي رفض الاتحاد الأوروبي السماح لها بالدخول في حيزه المالي واستخدام اليورو كنقد بديل عن الإسترليني.في حالة لبنان، سترتبط كل المناطق الفيدرالية بالليرة اللبنانية نفسها، ما يعني أنّ انهيار احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان يؤدي لانهيار قيمتها. طبعًا يمكن لأيّ منطقة مفدرلة أن تلجأ لاستخدام العملات العالمية، مثل الدولار، لكنّ هذا يعني أنّ المنطقة المذكورة لا أدوات نقدية بين أيديها لتحفيز أو إبطاء الاقتصاد أو حتى لإصدار سندات خزينة تحتاجها الحكومات عادة لتمويل إنفاقها أو مشاريعها. ثم السياستين الدفاعية والخارجية. في الولايات المتحدة، لا قدرة لدى الحاكم على تحريك الجيش (الحرس الوطني) خارج حدود ولايته إلا بطلب من أو موافقة الحكومة الفيدرالية. ثم إنّ الحرس الوطني لا سلاح ثقيلًا لديه، لأنّ هذا النوع من السلاح هو مع القوات الأميركية الفيدرالية كالجيش والبحرية، ومنها المارينز. هذا يعني أنّ انخراط لبنان وجيشه في أيّ مواجهات عسكرية هو في أيدي الحكومة المركزية حصرًا. أما السياسة الخارجية، ففيدرالية كذلك. مثلًا، لا يمكن للمناطق المفدرلة دعوة أكاديمي إسرائيلي لإلقاء محاضرة من دون موافقة الحكومة المركزية، وهذا ما يعني أن لا سلطة للحكومة المحلية في تنظيم من يدخل ويخرج من وإلى مناطقها.انفصال الجيب المسيحيفي زمن الحرب الأهلية، كان للجيب المسيحي مرفأ صغير في جونية كان منفذًا إلى العالم من دون حاجة المرور بمطار بيروت الدولي الذي كان يقع خارج الجيب المذكور. لكن في النظام الفيدرالي، المرافئ البحرية والجوية والحدود البرية كلها في أيدي الحكومة المركزية. ختامًا، في الأنظمة الفيدرالية، يسمو الدستور والقانون الفيدرالي على أيّ قوانين محلية. هذا يعني أنه لا يمكن لأيّ منطقة لبنانية مفدرلة تغيير اللغة الرسمية من عربية إلى آرامية سريانية، مثلًا، أو إدخال تغييرات أخرى على رموز الدولة لجعلها "أكثر لبنانية" منها عربية. كذلك، لا يمكن للمناطق المفدرلة الخروج من منظمات دولية، مثل جامعة الدول العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، أو الانخراط في تنظيمات أو تحالفات دولية تروق لها. الفيدرالية نظام حكم يعطي المناطق المفدرلة بعض الحرية في الشؤون الداخلية، لكنها مسلحة محدودة، وفي الحالة اللبنانية لا تسمح بانفصال الجيب المسيحي عن باقي لبنان، لا فعليًا ولا معنويًا، وبالكاد إداريًا. ملحوظة: كاتب هذه السطور لا يمانع تقسيم لبنان أو أيّ دولة أخرى إلى دول عملًا بمبدأ حق تقرير المصير، وفي الحالة اللبنانية قد يكون التقسيم الحل الأمثل لأنه يسمح للدول الناشئة بالتباري من أجل الوصول إلى سلام وازدهار، وربما في وقت لاحق تعيد اندماجها في أطر كونفدرالية أو فيدرالية أو على طراز يشبه الاتحاد الأوروبي. الدول ليست منقوشة في الحجر، لا حدودها ولا حكوماتها، بل هي أدوات في خدمة ناسها وحياتهم ورفاهيتهم، فإنّ تعثر نموذج، لا ضير من استبداله، وإن تعثرت دولة، لا مشكلة في تقسيمها أو اتحادها مع غيرها. لكنّ الفيدرالية في الوضع اللبناني القائم لا تقدّم ولا تؤخر.