عندما كتب محمد شحرور: "لم أحترم عواطف الناس في كتبي، لكنني احترمت عقولهم"، أثار في الحقيقة إشكالية عميقة تتعلق بعلاقة المثقف بالسلطة، سواء السلطة السياسية للدولة، أو سلطة الجماعة المغلقة. تحرير المواطنينففي بدايات استقلال دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كان هناك طموح كبير للخروج من التقليد إلى الحداثة، وذلك بكسر أطواق التخلف المادية والمعنوية، والتي أهمّها أنماط الوعي والسلوك السائدة في هذه المجتمعات، والتي لم تكن تتلاءم مع اختيارات الدولة الحديثة، لكنّ التبعية السياسية والاقتصادية للقوى الدولية، وترسيخ الاستبداد في التجارب السياسة المتتالية، أدت في النهاية إلى فشل مشروع التحديث من الداخل، وقد ساعد على ذلك بشكل كبير، رغبة الأنظمة السياسية الاستبدادية في الاستمرار من دون تغيير، ما جعلها تعمل على الحفاظ على توازنات داخلية مضادة للتطور، ومساندة للجمود والتقليد، بعد أن فهمت بأنّ مسلسل التطور الديمقراطيّ سيؤدي حتمًا إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإلى تحرير المواطنين الأفراد، والمطالبة بالتوزيع العادل للثروة، وهو ما لا تقبله اللوبيات المهيمنة على مفاصل الدولة.في هذا السياق سيبرز الإسلام السياسيّ كعامل توازن بالنسبة للسلطة ضد القوى الديمقراطية التحررية في الداخل، كما سيظهر كتعبير عن الخيبة من التحديث المُجهض الذي لم يؤدِّ إلى الأهداف المعلنة، ما يفسر أنّ عددًا من الحداثيّين بالأمس، انضموا إلى معسكر التقليد بعد ذلك. في هذا السياق الصعب والمضطرب، وجد المثقف نفسه في وضعية أكثر تعقيدًا من ذي قبل، فبينما كان في السابق يخوض صراعًا ضد السلطة، ودفاعًا عن المجتمع الرازح تحت نير الاستبداد، صار في مواجهة المجتمع والسلطة معًا، أي في صراع على جبهتين، بعد أن تحولت ثوابت الاستبداد بالتدريج، من سياسة تعتمدها السلطة، إلى "ثقافة" سائدة في المجتمع، أي ذهنية راسخة تؤطّر الوعي والسلوك الجمعي، وتعرقل بنجاح كل محاولات النهوض والخروج من التخلف.مسلسل الخيبات والإحباطاتفي هذه الوضعية الجديدة، أصبحت السلطة في وضعية مريحة، فهي لم تعد بحاجة إلى إرهاب المثقف أو اعتقاله أو تعنيفه، إذ صار المجتمع نفسه يتكفّل بذلك، حيث تنبع روح الممانعة ضد الديمقراطية، من القوى المجتمعية المحافظة نفسها، وصارت السلطة تعتمد تلك الممانعة الشعبية ضد التغيير، على أنها "مشاعر المجتمع" التي لا ينبغي "استفزازها"، بينما هي في الحقيقة مجرد ضوابط تقليدية كانت موجودة قبل مسلسل التحديث، وعادت من جديد، بعد أن قامت السلطة بإيقاظها، عبر نشر النزعة السلفية والأفكار النكوصية من خلال التعليم والإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، على مدى عقود.من هنا نفهم أنّ عبارة محمد شحرور "لم أحترم عواطف الناس ولكنني احترمت عقولهم"، هي في الحقيقة عبارة درامية تلخّص كلّ مسلسل الخيبات والإحباطات التي عاشها المثقف، في البلدان التي ظلت تعاني التخلف بإرادة حكامها.ومنبع الدراما في هذه المقولة، هو أنّ العقول التي يخاطبها المثقف، لم تعد تشتغل منذ فترة طويلة، ما دامت الثقافة السائدة ترسخ البديهيات العاطفية على حساب المنطق والفكر العقلاني والعلمي. ولهذا يصبح أمرًا طبيعيًا أن يواجَه المثقف بوابل من الشتائم من طرف العامة، ما يريح السلطة التقليدية والإسلام السياسيّ معًا، ويُعفيهما من تأطير حوار وطنيّ مسؤول، يعرفان مسبّقًا أنه سيتجه ضد أهدافهما.هناك الكثير من الأقوال التي يقرأها الناس على عجل، قد لا يفهمون كل أبعادها، لكنها عندما يتمّ التأمل فيها، تنبئنا بمسلسل كامل من التحولات، وبالكثير من خفايا الواقع.