تحولت العاصمة الفرنسية خلال الأيام الماضية إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي، حيث توافد إليها مشاركون من مختلف أنحاء العالم لحضور "قمة باريس" الدولية للذكاء الاصطناعي. وقد شهدت القمة حضور نحو 1,500 شخصية بارزة، من قادة سياسيين ومسؤولين تنفيذيين في كبرى شركات التكنولوجيا، اجتمعوا بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون لمناقشة مستقبل هذا القطاع الحيوي وتأثيره المتزايد على مختلف المجالات.قمة استثنائية بزخم غير مسبوقوعلى الرغم أن هذه القمة ليست الأولى من نوعها، إلا أن ما يميزها هذه المرة هو الزخم الكبير الذي تحظى به، سواء على الصعيد السياسي والاجتماعي أو من حيث التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي. تأتي قمة باريس في وقت يشهد فيه العالم قفزات هائلة في هذا المجال، من بينها الابتكارات في الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتعزيز قدرات التعلم العميق، إضافةً إلى التطبيقات المتزايدة للذكاء الاصطناعي في الصناعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والطاقة. هذه التطورات جعلت من القمة حدثًا بالغ الأهمية، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية واعدة، بل بات محركًا رئيسيًا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على مستوى العالم.كما تكتسب هذه القمة أهمية إضافية كونها تأتي مباشرة بعد إطلاق الصين لتطبيق "Deep Seek"، الذي أذهل العالم، خصوصا من حيث تكلفته المتدنية، ما يعكس دخول الصين القوي كلاعب رئيسي ومنافس جدي للولايات المتحدة في هذا المجال. ويمكن القول إن هذا التطور قد فتح الباب على مصراعيه أمام سباق عالمي محموم للسيطرة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يضيف أبعادًا جيوسياسية جديدة لهذا القطاع.من الناحية الاجتماعية، تأتي هذه القمة في وقت تتزايد فيه المخاوف بشأن الآثار السلبية للذكاء الاصطناعي على المجتمعات البشرية، خصوصًا مع محاولات بعض الجهات استغلال هذه التكنولوجيا للتأثير على نتائج الانتخابات وإعادة تشكيل الخارطة السياسية بطرق خداعية. هذا الواقع يؤكد الحاجة الماسة إلى إطار أخلاقي وتنظيمي واضح يحكم استخدام الذكاء الاصطناعي، ويمنع إساءة استغلاله بطرق قد تضر بالاستقرار المجتمعي والسياسي. لا يخفى على أحد أنه منذ أن وضع عالم الرياضيات الشهير ألان تورينغ الأسس الأولى للذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي، شهد هذا المجال تطورات هائلة وغير متوقعة. واليوم، يمكن القول إن قمة باريس تمثل نقطة مفصلية في مسار هذه التكنولوجيا، إذ تفتح الباب أمام تحول الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية متقدمة إلى قوة مسيطرة على مختلف القطاعات، مما يمهد لولادة ما يعرف باسم "عصر الذكاء الاصطناعي".من باريس إلى دبي: الاستعداد لعصر الذكاء الاصطناعي وفي نفس السياق، ومن دبي تحديدًا، حيث تُعقد القمة العالمية للحكومات، أشار عدد من المشاركين إلى أن العالم يشهد تحولًا جذريًا من عصر الثورة الصناعية إلى "العصر الذكي"، أي عصر الذكاء الاصطناعي. وفي هذا الإطار، قال محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة، خلال افتتاح القمة العالمية للحكومات، إن السنوات الـ25 القادمة ستشهد تحولات أكبر مما شهدته البشرية طوال تاريخها، مشددًا على أن القرارات التي تُتخذ اليوم ستحدد شكل المستقبل خلال العقود المقبلة.وعليه، يمكن القول إن قمة باريس قد أعلنت رسميًا عن بدء العد التنازلي نحو تحول البشرية من عصر الاتصالات والتكنولوجيا المتقدمة إلى عصر الذكاء الاصطناعي، كما أنها وجهت دعوة عالمية لرسم معالم هذا العصر الجديد. وقد تميزت القمة بثلاث نقاط رئيسية:كسر الأحادية وفتح المجال لعالم متعدد الأقطاب أكدت القمة أن المستقبل للجميع، داعيةً إلى كسر أحادية أو ثنائية الأقطاب في مجال الذكاء الاصطناعي، وفتح المجال أمام عالم متعدد الأقطاب أو بالأحرى تشاركي، يضم دول العالم أجمع دون استثناء. كما ذهبت القمة إلى أبعد من ذلك، مشددةً على ضرورة إتاحة الوصول إلى هذه التكنولوجيا لجميع الدول، لضمان تعاون دولي مثمر نحو مستقبل أفضل. إطلاق شراكة دولية لتعزيز الابتكار والتعاون شهدت القمة إطلاق شراكة دولية متميزة في مجال الذكاء الاصطناعي، جمعت بين فرنسا والدول الأوروبية، إلى جانب الهند وعدد من الدول الإقليمية الفاعلة، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعد من أبرز الدول الرائدة في هذا المجال خلال السنوات الماضية. بذلك، نجحت القمة في جمع الدول ذات القدرات التكنولوجية المتقدمة، مع الدول ذات الإمكانيات اللوجستية العالية، بالإضافة إلى الدول التي تمتلك استثمارات ضخمة ومصادر طاقة، مما يعزز من فرص تطوير منظومة ذكاء اصطناعي عالمية شاملة. ترسيخ القيم الإنسانية كإطار أساسي لمستقبل الذكاء الاصطناعي ركزت قمة باريس على القيم الإنسانية كإطار عمل واضح لمستقبل الذكاء الاصطناعي، مشددةً على ضرورة وضع أطر تنظيمية صارمة تضمن استخدامًا مسؤولًا وأخلاقيًا لهذه التكنولوجيا، خصوصا في القطاعات الحساسة مثل العدالة والرعاية الصحية والتمويل. وشددت القمة على أهمية الشفافية والمساءلة في قرارات الذكاء الاصطناعي، مع ضرورة الحد من التحيزات وضمان عدم استغلال هذه التكنولوجيا بطرق تضر بالمجتمعات أو تنتهك الخصوصية. كما دعت إلى تعاون دولي لوضع معايير موحدة وإطار رقابي عالمي يضمن بقاء الذكاء الاصطناعي في خدمة البشرية، ما يعزز التنمية ويحافظ على القيم الإنسانية في العصر الرقمي.يقول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينغ: "يمكن أن يكون النجاح في إنشاء الذكاء الاصطناعي أكبر حدث في تاريخ البشرية، لكنه قد يكون الأخير ما لم نتعلم كيفية تجنب مخاطره". وهنا يبرز التساؤل: هل ستلقى دعوات قمة باريس آذانًا صاغية، وتدخل البشرية هذا العصر الجديد بطريقة آمنة وسلسة؟ أم أن العالم لا يزال غير مستعد لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، مما قد يؤدي إلى فوضى تقنية وأخلاقية غير مسبوقة؟