من أعسر المهمات أحيانا أن توجز الكلام في حق من يستحق الكلام، ومن دفع حياته ثمنا لقدسية مهنة الإعلام، وقدم روحه تضحية لنقل الخبر صوتا وصورة من وسط أدوات القتل التي تحيط به من كل الجنبات.. إلى روح الزميل محمد بعلوشة، مراسل قناة ومنصة "المشهد" في غزة، الذي فارقنا في 14 ديسمبر 2024، وكأنه لم يخيب ظن الموت الذي صار أكثر من الحياة في غزة، ولم يشأ أن يكون استثناء إذا القاعدة أن الناس جميعا في مرمى القصف الإسرائيلي الذي ينقض عليهم يوميا ليل نهار، غير مُفرّق بين رجل وامرأة، بين طفل وشيخ، بين سليم وسقيم، بل ينقض على كل روح وكل من وما يتحرك. الزميل بعلوشة الراحل الحي فينا، لم يكن يسعى للشهرة في عمله، لأن العمل الصحفي الصادق المتقارب مع هم الإنسان هو الشهرة الخالصة النقية لا شهرة الزبد والضجيج. منذ بدء الحرب على غزة قبل 14 شهرا، كان الزميل بعلوشة يتنقل بين الحتف والحتف، يرقب خطوات قدميه بحذر حتى لا يسيء عن غير قصد لجثة طفل هنا، أو أشلاء امرأة هناك، تحدى رائحة الموت وتجاوز الخوف ممن حاولوا زرع الخوف في نفوس الأبرياء العزل بمعاول القتل المباشر. كان المُنقب عن تفاصيل حياة الفلسطيني في غزة، وكان همُّه أن ينقل همَّه، وأن يشرح غمَّه، ويبيّن كربه، وأن يوصل ما ثقل عليه من واقع يومي مرير كُتب عليه أن يعيشه ساعة بساعة، وكل ساعة قد تخالف التي قبلها، فمن ودع عزيزا قبل ساعة، قد يودعه عزيز آخر في الساعة التي تليها."الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء" ارتضى زميلنا الراحل بعلوشة مهنة المتاعب، وهي التي في غزة لم تعد مهنة المتاعب لأنها صارت مهنة الوداع الأخير كل يوم، ارتضاها إيمانا منه بواجب نقل الخبر الصادق كما هو، وإيصال صوت المظلوم والمكلوم بما تيسر من وسائل اتصال، وظل الصحفي الشجاع الذي لم ترعبه إصابته الأولى برصاص القناص الإسرائيلي الذي تربص به كي يسكت صوته، ويُعمي عدسته، فنهض رغم الجرح كي يواصل مسيرته دون أن يلقي بالعدسة على الأرض ويستسلم، ولو أنه كان يكتب وصيته ثم يمزقها، ثم يكتبها ثم يمزقها. ما أكثر ما يُذكر عن زميلنا بعلوشة، لكن أهمه أنه كاشف مذبحة الأطفال الخدّج في مستشفى النصر في غزة، الخبر الذي هز العالم بعد أن نقل الإعلام العالمي ما صوّره زميلنا. لم تكن أحلام بعلوشة أكثر من حلم هو حق إنساني طبيعي، كان حلمه أن يحتضن أطفاله كل يوم قبل أن يخرجوا من المنزل، لعل الحرب تنتهي فيتحقق حلمه، لكن انتهى عمره قبل الحرب ودون احتضان أطفاله، فودعنا شهيدا بطلا كحال أكثر من 190 إعلاميا كلهم دفعوا أرواحهم ثمنا لصوت الحق. يقول الراحل درويش: "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء".