لرمضان قدسية كبيرة عند المغاربة، حيث يتداخل الالتزام بالشعائر الدينية مع مجموعة من الطقوس والدلالات الاجتماعية، المرتبطة أساسا بتغير البرنامج اليومي، والعادات الغذائية والروابط الإنسانية، وللصيام مكانته الخاصة، التي تفرض احترامه الشديد على الكل، بما يفوق أحيانا حتى النظرة لتارك الصلاة، وهناك من يربط ذلك بعبارة طريفة رائجة، تقول إن شعوب المغرب الكبير قد تقاسمت أركان الإسلام فيما بينها، فالمغربي يصوم، والجزائري يحج، والموريتاني يصلي، والليبي يُزكّي، والتونسي يشهد، عبارة لا يمكن التأكد من مدى دقتها بطبيعة الحال، لكنها تبرز معالم ظاهرة تستحق الدراسة.صراعات ومشاحنات مع أي كانلكن، ومع توالي السنوات، برزت إلى العلن ظاهرة غريبة أخرى، عنوانها أشخاص يستقبلون الشهر بنفور شديد، ويتعاملون مع يوم الصيام الطويل بالكثير من العصبية المجانية، والاستعداد الفوري للدخول في صراعات ومشاحنات مع أي كان، ولأتفه الأسباب، جاعلين من أنفسهم قنابل موقوتة، مستعدة للانفجار في أية لحظة، فاتفق المغاربة على تسمية هذه الظاهرة بـ"الترمضينة" وفق الدارجة المحلية. على الطريق، قد يتحول نقاش بسيط حول أسبقية المرور إلى تشابك بالأيدي، لأن أحد السائقين أو كلاهما "مرمضن"، وفي عربة الترام، حيث يكون الزحام على أشده قبل الإفطار، يمكن أن يؤدي احتكاك عابر إلى بوادر شجار وتدخل من باقي الركاب لتهدئة النفوس، قبل أن تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، ولا أبالغ إن قلت إنني طيلة الأسبوع الأول من رمضان، أي قبل كتابة هذا المقال، قد شهدت حادثة أو حادثين على الأقل يوميا، فمرة عاينت اشتباك عامل توصيل طلبيات مع نادل في مطعم، بسبب تأخره في إعداد الطلبية، فتدخل المارة، وألقى عامل التوصيل بخوذته الصفراء على الأرض حانقا، مؤكدا أن نادل المطعم يفعل ذلك عمدا للتسبب في طرده من عمله، ومرة تابعت شجارا لا يخلو من كلام ناب، بين سائقي تاكسي بالقرب من محطة القطار، لخلافهما حول الأسبق والأحق بتوصيل زبون ما، ولم أتفاجأ عندما قرأت في بعض الصحف عن تطور بعض هذه الشجارات إلى ضرب وجرح ودماء."صيام بالجميل"هناك تفسيرات عديدة لهذه الظاهرة، بين من يربطها بالجوع واضطراب ساعات النوم، خاصة مع عجز الكثيرين عن إعادة تنظيم جدول نومهم ليكون الجسم قادرا على تعويض ساعات النوم الناقصة، وطعامهم لتكون مكوناته قادرة خلال فترة الإطار على تعويض حاجيات الجسم خلال الصيام، بما يفضي بالتالي إلى تراجع التركيز وضعف القدرة على التحكم بالانفعالات النفسية، لكن التفسير الشائع وربما الأقرب يتهم بدرجة أولى الإدمان، بمختلف أنواعه، وعلى رأسها التدخين، فالواقع أن معظم حالات "الترمضينة" أبطالها مدمنون على السجائر أو حتى المخدرات، ويمتنعون فعلا عن تعاطيها طيلة فترة الصيام، لكنهم يعوضون ذلك بتبني طباع حادة، مردها حاجتهم الشديدة إلى النيكوتين أو مواد مخدرة أخرى، محولين صيامهم إلى ما يسميه المغاربة "صيام بالجميل"، أي أن "المرمضن" صائم رغما عنه، ويمن على الآخرين صيامه. بالإضافة إلى ذلك، فمن الواضح إذن أن معظم "المرمضنين" يعيشون غيابا تاما في محيطهم للروحانيات التي تشكل الغاية الحقيقية لهذه الشعيرة الدينية، من تدبر في معاني الحياة، وتفكر في القدر والمصير، ويمكن أن نعزو ذلك لأسباب عدة، ربما على رأسها صورة رمضان الحالية، الذي جرى تحويله تدريجيا إلى شهر للاستهلاك، سواء تعلق الأمر بكميات زائدة من الطعام مصيرها الضياع، أو "قصف" متواصل من المسلسلات التي تتبارى في شد المتفرجين إليها، وهذه قصة أخرى... (المشهد)