منذ صدور المرسوم عدد 15 لسنة 2022 المتعلق بوضع نظام قانوني لنشاط الشركات الأهلية، تعددت المحاولات لتنزيل هذا المشروع الطموح على أرض الواقع.فالأهم من توفير أرضية قانونية على مستوى النص هو إيجاد آليات المرافقة والتمويل الضرورية حتى تنطلق التجربة في ظروف ملائمة لتلبية تطلعات الفئات الاجتماعية التي طالما عانت عقودًا من النكران والتهميش.وجدير بالذكر أن فكرة الشركات الأهلية هي محور مهم في مشروع البناء الجديد لمسار 25 يوليو، وتقوم على ممارسة جماعية النشاط الاقتصادي في حدود منطقة الإقامة على المستوى المحلي أو الجهوي على أن ينسجم هذا النشاط مع خصوصيات المنطقة وثرواتها ومواردها الطبيعية.وبهذا المعنى توفر الدولة فرصة مهمة لأبناء المناطق الداخلية والأحياء الشعبية لتحقيق التنمية والتشغيل استنادًا إلى المبادرة الطوعية.ومع الشروع الفعلي في تطبيق هذه الفكرة، تبين أن لشباب تونس على وجه الخصوص أفكارًا ومبادرات مميزة تنطلق من فهم الخصوصيات المحلية وتشخيصها وبلورة مشاريع منسجمة مع احتياجاتها التنموية الفعلية.فمثلًا قامت مجموعة من شباب معتمدية جرجيس بولاية مدنين ببلورة فكرة لأربع شركات أهلية الأولى في مجال الخدمات الفلاحية المرتبطة بقطاع زيت الزيتون، والثانية في مجال الخدمات البحرية والثالثة في مجال النقل لربط المعتمدية بمطار جربة وبمحطة السكك الحديدية بقابس، والرابعة في مجال الإعلام والثقافة، وبهذه الصورة يتحقق عمل تنموي اندماجي تتضافر داخله أنشطة مختلفة تثمن خيارات المنطقة وتوظفها لصالح الاستقرار والتشغيل.وهذا مثال من عشرات الأمثلة على مبادرات في مختلف مناطق البلاد التونسية هدفها تحويل تلك الطاقات المنسية إلى طور الإنتاج وخلق الثروة.دعم وتمويل إنشاء الشركات الأهليةومع تطور الأفكار كان لا بد من تطوير الآليات التطبيقية، وهذا ما تجسد أولًا من خلال تحريك بنوك القطاع العام وخصوصًا البنك الوطني للتضامن بالتنسيق مع وزارة التشغيل ووزارة المالية عبر رصد خط تمويل بعشرين مليون دينار لتقديم قروض ميسرة تصل إلى 200 ألف دينار للشركة الواحدة لمدة سداد تصل إلى سبع سنوات مع سنة أمهال.وفي مرحلة ثانية بادر الرئيس قيس سعيد بعقد لقاءات مع ممثلي جامعة البنوك والمؤسسات المالية لاستنهاض دور القطاع الخاص في دعم وتمويل إنشاء الشركات الأهلية.وقد ظهرت بوادر استجابة لهذا النداء عبر تفاعل عدد من البنوك مع فكرة إنشاء نظام قروض خاص بهذا النوع من الشركات يفتح باب الأمل في توسيع آفاق التنمية العادلة والمتضامنة وتكريس المساواة الفعلية بين الجهات والفئات.ولئن كان الحديث سابقًا لأوانه عن مدى نجاح التجربة على أرض الواقع، فإن الأهم هو الشروع فعلًا في رسم الخطوات الأولى نحو التجول النوعي من اقتصاد نخره الريع والاحتكار إلى اقتصاد يجسم تكافؤ الفرص بين المواطنين، ويعمم النشاط التنموي على كل المناطق والجهات لا سيما تلك الجهات المحرومة التي أقصيت لعقود وظل أبناؤها خارج دورة الإنتاج. إن فكرة إنشاء شركات أهلية في النطاقات المحلية هي تجسيد لرؤية ثورية شاملة تغير الواقع انطلاقًا من الإنسان وقدرته على خلق الثروة من دون تواكل على مجهود الدولة، وما على هذه الدولة إلا توفير الوسائل الضرورية لدعم المبادرة المحلية وتيسير الإجراءات والآجال حتى تتفعل تلك الطموحات التي لامست النور بعد عقود من العيش في عتمة الاستغلال والتفقير. نحن الآن أمام انطلاقة حقيقية لتجسيم ما قام به مسار 25 جويلية من إعادة تعريف لمفهوم الثورة في تونس عبر نقله من السطح السياسي المحاصصي إلى العمل الاجتماعي المساواتي. لقد عادت الثورة التي طالما استغلها تجار السياسة في تحقيق المآرب إلى صناعها الأصليين من أبناء المدن والقرى المنسية، وما عليهم الآن إلا العمل على تحويل الحلم الى حقيقة.