وقعت عيناي على بعض التدوينات -منها ما ليس رغبة مني في رؤيتها بل ظهرت لي- يجادل أصحابها إذا كان الفلسطيني انتصر أم الإسرائيلي بطريقة قزمت ما حدث وظلمته، وهمشت الأهمية والأولوية لحساب السذاجة واللجاجة. وإن كنت ألوم -بحسن نية وصدقها- من سيق، أو ساق نفسه، إلى هذا الجدل، فإني لائم في المقام الأول الفلسطينيين -من إعلاميين أو متحدثين أو ناشطين- أكثر من غيرهم من غير الفلسطينيين كونهم أبناء هذا الشعب، والمفترض أنهم يدركون تمامًا ما الاحتلال وما يمارسه بكل أدوات القتل والتدمير والتهجير بحق شعبهم، فما أحوج الشعب الفلسطيني إلى الوحدة، وهذا حينُها كون الجرح أصابنا جميعا، ولات حين جدال وسجال، والدماء التي سُفكت لم تجف بعد!حسابات الحقل خالفت حسابات البيدر هؤلاء الذين ألوم، همُّهم تبيان أن رأيهم الصواب، وإثبات أن حسابات الحقل خالفت حسابات البيدر، وأن الحزب الفلاني أحرص على شعبه من الحزب الآخر، في حين يرد الآخر على هذا الصاع بصاع مثله أو أكثر، ثم الانزلاق نحو الجدل على مصطلحات النصر، ففريق ينكرها وفريق يقرّها، والإيحاء بأن الفلسطيني هو المهزوم، وكأنهم يكافئون إسرائيل التي تحتلهم وتقتلهم بمنحها صورة المنتصر المحق في ما فعل، والباحث عن ذرائع لتسويغ ما فعل، -وهو الذي لم يكن يوما في حاجة لذريعة لما يفعل- وذلك إما بغباء التعبير أو بعاطفة الانتماء الحزبي. أتحدث هنا متحليا بكل أسباب الموضوعية، متحللا من كل انتماء سوى انتمائي لوطني فلسطين، 15 شهرا من حرب الإبادة ضد شعب أعزل لا يمكن الحكم فيها من انتصر ومن هُزم، فلم تكن حربا بين جيشين حتى يصح الحكم، ولم تكن أصلا حربا مباشرة بين إسرائيل و"حماس"، كانت حرب إبادة ضد شعب بأكمله، الأطفال فيها العدد الأكبر من الضحايا، وفاق وزن القنابل التي ألقيت على غزة ما ألقي على هيروشيما وناكازاكي بأضعاف، حرب لا وقت يكفي لسرد ما خلفته على الصعد كافة، فكلنا يعرف وشاهد، كونها أول إبادة مصورة وموثقة، وحركت شعوب العالم، ومعها الجنائية الدولية التي وجدت نفسها مضطرة قانونيا لإصدار مذكرتيْ اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه الذي أقاله يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب، وهي سابقة في تاريخ المحاكم الدولية بحق مسؤولين إسرائيليين، حكم قانوني اتخذ من دون الخوض في سجالات حسابات الحقل والبيدر، كون ما شنته إسرائيل بحق شعب بأكمله مسألة، والحرب على "حماس" مسألة أخرى.محاسبة المسؤولين الإسرائيليين لذلك أذكّر المتجادلين تحديدا بأن الفاجعة كبيرة، وسوف تتكشف فظاعتها أكثر بعد توقف الحرب، فليس المطلوب ولا المرغوب الآن أن يلقي كل طرف فلسطيني باللوم على الآخر، ولا انتزاع حق مقاومة المحتل من الآخر ظنا أنه الأدرى والأحرص، وأنه ذو الحسابات الأدق بمعاوله الأنسب. المطلوب والواجب وطنيا تكثيف الجهد من أجل تحريك القوانين الدولية لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن حرب الإبادة الظاهرة في غزة، والمبطنة في الضفة، وتكثيف الصوت لجعل العالم يدرك أكثر أن الاحتلال الإسرائيلي فصل عنصري قائم على "تطهير" عرقي، والارتكاز على الحرب التي شنت على غزة لإثبات حقيقة الاحتلال، وحق الشعب الفلسطيني في نيل حريته في دولته، وأنه لم يطلب سوى العيش في سلام. أما الانزلاق نحو التناحر على المصطلحات أو إن كان هناك انتصار أم لا، فهذا خنجر مسموم في ظهر فلسطين وبطنها، واستخفاف بدماء الشهداء الأطفال قبل غيرهم في هذا الوقت، أما الحسابات والمحاسبات فلتكن مؤجلة حتى يُشفى الناس من هول ما عايشوه. ختاما، ليس هناك منتصر ولا مهزوم بالمعنى الدقيق والمطلق، هناك من فشل وهناك من حقق، هناك من قَتل ودمر وهناك من خسر، هناك من خسر رواية وهناك من ربح روايات، هناك من أراد أن يُهجّر المدنيين وهناك صمود شعبي مدني في وجه التهجير رغم فاتورة الدماء، فيكفينا أن الاحتلال بحربه قزّم فرحنا، وصار البقاء على قيد الحياة، وانتهاء القتل غدا مناسبة تستدعي الابتهاج والفرح.