ليس سرا أن يعاني لبنان الأمرّين من أزمة متعددة الوجوه، فهي مالية، اقتصادية، معيشية، سياسية، مؤسساتية، اجتماعية وثقافية في آن معا.لم تبدأ الأزمة مع انهيار العملة الوطنية والقطاع المصرفي في نهاية شهر أكتوبر 2019، فلقد اعتملت في رحم البلاد مدة طويلة حتى انفجرت كل الأزمات دفعة واحدة، فعصفت ببلاد الأرز وبجميع اللبنانيين من دون تمييز. مرّت أشهر طويلة ولم يخرج لبنان من أزمته التي أضيفت إليها أزمة دستورية، تمثلت بهذا الشغور المميت في أهم مؤسسات السلطات الدستورية. فقد انتهت ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر الماضي من دون أن يُنتخب خلف له في سدة الرئاسة. تزامنا، فشلت كل المحاولات في تشكيل حكومة كاملة الأوصاف بعد استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي السابقة، فبقيت حكومة تصريف الأعمال تتولى السلطة التنفيذية بشقيها الحكومي والرئاسي ولكن بصلاحيات شديدة الحصر. وحتى الآن، بعد مرور ما يقرب من شهرين ونصف لا يزال لبنان يعاني من هذا الفراغ والسلطة المنقوصة. هذا واقع سلبي جدا، لأنه يدفع شيئا فشيئا بالبلاد إلى حالة من "الفشل" على الصعيد المؤسساتي، وفي الوقت عينه يشتت المسؤوليات عن أخطر أزمة تعصف بلبنان سبق أن وصفها البنك الدولي بواحدة من أكبر 3 أزمات مالية واقتصادية تصيب بلدا منذ عام 1850!إذا نحن في واقع الفراغ واللاحكم الفعلي. ويعيش لبنان الدولة تحت مظلة الحلول الجزئية والمرحلية قصيرة المدى. فلم تفلح الطبقة السياسية التي أعادت إنتاج نفسها مرة جديدة في الانتخابات النيابية الأخيرة في مايو 2022، بتقديم نفسها كبديل عن نفسها بشكل موثوق ومختلف عما سبق. أي كطبقة قررت أخيرا أن تتحلى بحس المسؤولية الوطنية والتاريخية في سبيل إنقاذ لبنان المتخبط في جحيم الأزمة المهولة. والحقيقة أن جانبا من جوانب الإخفاق الذي يُميّز حكم الطاقم الحاكم في لبنان، يتصل بعلاقات لبنان مع حاضنته العربية، بعدما تردّت إلى حدود بعيدة. صحيح أن الحاضنة العربية، وهنا نعني أساسا دول مجلس التعاون الخليجي، ميّزت دائما بين إخفاقات السلطات اللبنانية وبين الطاقم الحاكم، والضرر المتواصل المنطلق من لبنان في حق أمن دولها القومي، وبين احتضانها لمئات آلاف اللبنانيين الذين يعيشون ويعملون على أرضها، ويسهمون بالنهضة التنموية التي تشهدها المنطقة. لكن من الصعب جدا تجاهل إخفاقات الطاقم السياسي اللبناني التي سبق لدول مجلس التعاون الخليجي أن حددتها ورسمت خارطة طريق لمعالجتها، من أجل تسهيل استدرار الدعم والمساعدة لانتشال لبنان من أزمته. والحال، أن اللبنانيين كما العواصم الأجنبية المعنية بالوضع اللبناني، يعرفون أن الحاضنة العربية هي الضمانة الأساسية لنهوض لبنان، فلا تعافي ولا نهوض من خارج الحاضنة العربية. ولاسيما أن زمن التعامل مع لبنان وسلبيات واقعه تغيّر، فقد حان الوقت لكي يتحمل حكام البلد مسوؤلياتهم أمام الشعب، وأمام المجتمعين العربي والدولي. ولعل في مراجعة سريعة للمبادرة الخليجية التي قدّمها وزير خارجية الكويت في 24 يناير 2022 نيابة عن دول مجلس التعاون في أعقاب أزمة العلاقات الخطيرة عام 2021، تشكّل إضاءة سريعة على واقع لبنان، وخطة الطريق المطلوبة من الطاقم الحاكم من أجل إعادة الثقة. فقد جاء في ورقة النقاط الخليجية العشر التي حملها الشيخ أحمد الناصر "التركيز على قضايا تهم المواطن اللبناني قبل غيره"، حيث شدّدت الورقة على التزام لبنان بمسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والمالي كما إعادة الاعتبار إلى مؤسسات الدولة اللبنانية. وشكّلت دعوة مجلس التعاون لبنان إلى "احترام سياسة النأي بالنفس وإعادة إحيائها بعد تعرضها لشوائب وتجاوزات كثيرة" نقطة حساسة. وبلا شك فنجاح الدولة اللبنانية في تطبيقها يُعيد الثقة المفقودة. ومن هنا جاء إصرار الورقة على "احترام سيادة الدول العربية والخليجية ووقف التدخل السياسي الإعلامي والعسكري في أي من هذه الدول واحترام قرارات الجامعة العربية والالتزام بالشرعية العربية ". ولم تنس الورقة الإشارة إلى ضرورة "احترام القرارات الدولية 1559 و1701 مع ما يعنيه ذلك من ضرورة حصر السلاح بيد الدولة "، فضلا عن "مكافحة تهريب المخدرات". ما تقدم، هو خريطة طريق لبنانية عربية ودولية قُدمت للطبقة الحاكمة اللبنانية قبل عام، وهي لا تزال المسار الوحيد الصالح من أجل إخراج لبنان من أزماته. فمعاناة لبنان يفاقمها عدم تحمل أصحاب القرار مسؤولياتهم التاريخية تجاه البلد أولا وقبل أي شيء آخر. أما الحاضنة العربية التي يقر الشركاء الدوليون بأنها وحدها المعبر الصالح لنهوض لبنان، فهي لا تزال تنتظر من لبنان الرسمي تطبيق سياسة "ساعد نفسك لكي نساعدك"! فمتى يرتقي الطاقم الحاكم في لبنان؟