في باكورة مواقفه في السياسة الخارجية، أعادنا الرئيس دونالد ترامب إلى زمن المواقف الشعبوية والارتجالية، فقوله أن على الولايات المتحدة "عدم التورط" في سوريا يشي بأنه لا يتذكر أن شكل الوجودين الأميركي والتركي، على الأراضي السورية، رسمهما ترامب نفسه في ولايته الأولى، يوم قال ترامب أن الوسيلة الأفضل للقضاء على داعش هي انتزاع النفط من بين أيديهم لقطع موارد دخلهم. وعلى أساس رؤية ترامب، انتشرت قوات أميركية في البادية السورية، شرق البلاد، وسيطرت على حقول النفط فيها، وأغلقتها، وهو ما حرم داعش أو أي تنظيمات متطرفة أخرى مداخيلها."عدم التورط" في سوريا كذلك قام ترامب في ولايته الأولى بخطوة مفاجأة، إذ هو أمر القوات الأميركية بالانسحاب من أراض سورية في حوض الفرات، حتى تدخل القوات التركية بدلا منها، وهو ما عزز منطقة نفوذ الأتراك، وسمح للتنظيمات التي تعمل في مناطق النفوذ التركي داخل سورية ببناء قدراتها، إلى أن تمكنت من بدء عملية اكتساح سوريا والإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد. أما السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن، فهي مبنية على عدم القيام بمبادرات تذكر، والحفاظ على الوضع القائم بأي ثمن، وهي سياسة مستوحاة من تصريح للرئيس السابق باراك أوباما قال فيه إن كل ما على أميركا أن تفعله في العالم هو أن "لا تقوم بأفعال بلهاء".لهذا السبب، رأينا سياسة بايدن تتمحور حول "خفض التصعيد" وإدارة الأزمات، من دون إستراتيجية واضحة أو رؤية يمكن تسميتها بعقيدة بايدن. في سوريا، بالكاد كان لإدارة بايدن سياسة، بل هو حافظ على الموقف الأميركي وشكل انتشار القوات على ما كان عليه زمن ترامب، وهو ما يعيدنا الى تصريح ترامب حول ضرورة "عدم التورط" في سوريا، لأن أميركا فعليا تدخلت في زمنه، ضربت مطار خان شيخون ردا على ضربة كيماوية كانت حصلت قبل ذلك بقليل. ثم قام ترامب بتحديد أماكن نشر القوات. كل هذا يعني أن ترامب نفسه كان متدخلا في سوريا، وأنه يتحمل مسؤولية السياسة الأميركية هناك، التي لم يغيرها بايدن كثيرا.لكن ذاكرة الرئيس الأميركي يبدو أنها خانته، فسارع إلى نشر تغريدة يدعو فيها لبقاء أميركا خارج الشأن السوري، في وقت للولايات المتحدة قوات على الأرض السورية، وعلاقات، ومصالح، ولا يمكن التراجع عن كل ذلك فقط بالمسارعة لتدبيج موقف يدغدغ مشاعر انعزاليي الولايات المتحدة ممن يعتبرون أنهم لا يفهمون العالم وشؤونه، لذا على أميركا أن تبقى خارج الشؤون الدولية.غالبية المتابعين في العاصمة الأميركية لا يعتقدون أن لموقف ترامب تأثير على السياسة الأميركية تجاه سوريا، حتى بعد دخوله البيت الأبيض، وهذا ما يعيدنا إلى مشكلة حكمه في الولاية الأولى، فهو كان إما يتخذ سياسات بدون استشارة العارفين، مثل الانسحاب الأميركي المفاجئ في سوريا، الذي كبد الكرد السوريين خسائر أمام القوات التركية المقتحمة، أو يتخذ مواقف لا ترتبط بالسياسات على الأرض، وهو ما يؤدي إلى توتر أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها ممن يبنون سياساتهم بالاستناد إلى مواقف الرئيس الأميركي، ثم يفاجؤون إما بسياساته العفوية التي يتخذها بدون استشارتهم أو بمواقفه التي لا تناسبهم ولكنها لا تترجم الى سياسات.لقد أدت حربي العراق وأفغانستان إلى تخريب السياسة الخارجية للولايات المتحدة لأنها كسرت الثقة بين القيمين على هذه السياسة وغالبية الشعب الأميركي، إذ لم تعد غالبية الأميركيين ترى في السياسة الدولية إلا حروب مكلفة عليها بالدماء والأموال.ومنذ نهاية الحربين، لم ينجح القادة الأميركيون في إقناع غالبية الأميركيين أن خطأ التورط في حربين لا يعني أن على أميركا الانسحاب من المشهد الدولي، ولا يعني أنه يمكن للولايات المتحدة أن تعيش منعزلة في جزيرتها القارية.كذلك، لا يعني فشل حربي العراق وأفغانستان أن الحرب الشاملة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لواشنطن لخوض غمار السياسة الدولية، إذ أن في أيدي واشنطن أكبر عدد من الأدوات التي تجعلها من أكبر وأقوى اللاعبين في العالم.عالم منفلت من عقالهويمكن للولايات المتحدة أن تعتبر من التجربة الإسرائيلية، فإسرائيل، مثلا، نجحت، في أشهر، بتحطيم أسطورة القوة الإيرانية وقص بعض أذرعها، وذلك من دون أن تتورط في احتلال مناطق تذكر ولا أن تخوض حروبا مفتوحة، بل هي اعتمدت على قدرات استخباراتية هائلة وعلى أسلحة نوعية بالغة الدقة لتقضي على قادة إيرانيين وعلى حلفائهم في لبنان وسوريا، فضلا عن تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية وقصف موقع يُعتقد أن طهران كانت تعمل داخله على تجارب لتسليح اليورانيوم. كل ذلك فعلته إسرائيل بدقة ورشاقة ومن دون حروب مفتوحة الأمد أو احتلالات.والحال هذه، إن كان بإمكان إسرائيل تحقيق أهدافها بهذا الشكل، ما الذي يمنع أميركا، صاحبة الإمكانات الأكبر، من خوض حرب مشابهة ضد من تحاول ردعهم، مثل الحوثيين الذين يهددون الملاحة العالمية والذين رفعت هجماتهم من معدل التضخم العالمي، من دون الانخراط بحرب مثل حرب العراق؟ أو ما الذي يمنع أميركا من فرض معادلات سياسية في العراق سوريا تخرج هاتين الدولتين من دوامة العنف ونموذج "الدولة المقاومة" المزري الذي أدى لانهيار الاقتصاد والاجتماع والحجر والبشر؟ المطلوب من الولايات المتحدة في سوريا التعلم من التجارب العسكرية والاستخباراتية والديبلوماسية الجديدة، لا مخاطبة الأميركيين بخطاب انعزالي ينتمي إلى العقدين الماضيين حول ضرورة إحجام أميركا عن المشاركة في أي من الشؤون الدولية، فلأميركا حلفاء وأصدقاء حول العالم، والحلفاء يستندون إلى حلفائهم، ومن دون هذا النوع من الثقة، لا حلفاء، ولا سياسة دولية، ولا نظام عالمي، فقط عالم منفلت من عقاله فيه الحكم للأقوى.