شكّل الأداء العسكري والاستخباراتي المتفوق الذي قدمته إسرائيل مفاجأة للحلفاء قبل الأعداء، ونجحت من خلاله في إلحاق هزيمة مؤكدة بـ"حزب الله"، وهو ما سيؤهلها لفرض - للمرة الأولى منذ 1982 - إرادتها السياسية على خصومها. لكن إسرائيل يبدو أنها تعلمت درسا من اجتياحها لبنان في 1982، وكذلك من حرب أميركا في العراق، ومفاده أنه لا يمكن التعويل على شركاء محليين للإفادة من الإنجازات العسكرية، لذا، يمكن لأي متابع للنقاش الإسرائيلي الحالي استخلاص خطتين، أ وب."الخطة أ"الخطة أ تقضي بتصفية كل قادة "حزب الله" وبضرب كل مخازن أسلحته، وهي نجحت في ذلك إلى أبعد حد وسيحتاج الحزب اللبناني الموالي لإيران لسنتين على الأقل لإعادة بناء جزء من قدراته، هذا إن سمحت إسرائيل بوصول شحنات الأسلحة التي ما برحت تضربها وهي في طريقها من إيران. في ظلّ الوهن الذي أصاب "حزب الله"، ستعرض إسرائيل على لبنان - من خلال عواصم القرار - فرصة استعادة سيادتها، وذلك عن طريق تطبيق قرار مجلس الأمن 1559، والقاضي بحل جميع الفصائل المسلحة في لبنان، بما فيها "حزب الله". ولن يوافق المجتمع الدولي هذه المرة على التبرير اللبناني القائل إن "حزب الله" مقاومة شعبية وليس "ميليشيا".في حال سلّم الحزب ما تبقى من سلاحه للجيش اللبناني، وقام بتطويع من يرغب من مقاتليه في صفوف القوى الأمنية اللبنانية، على غرار ما فعلت الميلشيات اللبنانية إبان إعلان نهاية الحرب الأهلية في العام 1991، يمكن أن يتحول "حزب الله" إلى حزب سياسي لبناني حصرا. الدولة اللبنانية متلاشية، ولكنها موجودة، ويمكن إعادة تنشيطها بالسماح بانتخاب رئيس جمهورية من دون مناورة ولا مماطلة مثل التي فرضها "حزب الله" على مدى سنوات، ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب بتشكيل حكومة تباشر الإصلاحات السياسية والإدارية والمالية المطلوبة لنيل المساعدات الاقتصادية الدولية والعربية.ويلتزم لبنان باتفاقية الهدنة مع إسرائيل الموقعة في العام 1949، ويكون أي خرق للحدود بين البلدين من الجهة اللبنانية مسؤولية بيروت. أما السلام بين لبنان وإسرائيل، فيعود للبنانيين، ويمكنهم إما التزام مبادرة السلام العربية، أو اللحاق بركب الدول العربية التي اتخذت قرارا سياديا يخدم مصالحها ووقعت اتفاقية سلام ثنائية مع إسرائيل، من دون التخلي عن دعم الفلسطينيين دبلوماسيا في سعيهم لإقامة دولة لهم. هذا هو السيناريو الوردي أو "الخطة أ". لكن اللبنانيين يبدو أنهم ما زالوا لا يدركون أن فداحة هزيمة "حزب الله" هذا الشهر هي بضخامة حربي 1967 و1973، وهو ما يشير إلى أن اللبنانيين لا يزالون متقاعسين عن النهوض لاستعادة سيادة دولتهم بحلّ "حزب الله العسكري والعودة إلى الوضع المستتب الذي ساد بين لبنان وإسرائيل على مدى عقدين بين 1949 و1969، وهي الفترة الذهبية للبنان."خطة ب" ولأن فشل اللبنانيين في إقامة دولتهم وهوسهم بقيام دولة فلسطين هو الأرجح، أعدت إسرائيل "خطة ب" تقضي بفرض الأمن على حدودها الشمالية من دون حل الجناح العسكري لـ"حزب الله" ووفقا للدرس الذي تعلمته إسرائيل من هجوم "حماس" عليها في 7 أكتوبر، ومفاده أن الأسوار الحدودية لا تكفي لحماية مواطنيها.لذا، ستعمل إسرائيل على تضخيم الخط الحدودي مع جيرانها من سور إلى منطقة عازلة خالية من السكان، على غرار المنطقة بين الكوريتين. إسرائيل بدأت فعلا بتنظيف كيلومتر أو أكثر داخل غزة لإقامة سور داخلي مواز للسور الحدودي. المنطقة بين السورين ستكون مليئة بالألغام الأرضية المضادة للآليات والأفراد، وستحلق درونات الاستطلاع بشكل متواصل فوقها للمراقبة، وهو ما سيجعلها منطقة عصية على دخول حتى الطيور إليها.سبب أساسي آخر خلف هذه المنطقة الحدودية العازلة هو أنها تعطي إسرائيل إنذارا مبكرا في حال حاولت "حماس" في الجنوب أو "حزب الله" في الشمال اجتياح السور.منطقة عازلة داخل لبنانفي الحالة اللبنانية، هناك عامل آخر خلف توسيع المنطقة العازلة إلى أكثر من كيلومتر أو اثنين، إذ هي ستكون بعمق 6 إلى 8 كليومترات. السبب هو أن إسرائيل عانت من الصواريخ الفردية المضادة للدروع، وهذه مداها 5,500 متر، ويمكن لأي مقاتل أن يطلقها ويوجهها بتقنية الراديو إلى أن تضرب هدفها، وقد قام "حزب الله" باستخدامها لقتل عدد من الجنود والمدنيين عبر الحدود على مدى الأشهر الماضية. هذا هو الذي أجبر الإسرائيليين على إخلاء الشمال، لا الصواريخ التقليدية أو الباليستية التي يمكنها أن تطال أي بقعة إسرائيلية سواء في الشمال أو الجنوب، ويمكن إطلاقها من جنوب الليطاني أو شماله أو من العراق أو من اليمن.خطر الصواريخ المضادة للدروع سيدفع إسرائيل إلى توسيع المنطقة العازلة داخل لبنان، وهو ما سيجبرها على القيام باجتياح بري محدود بعمق 10 كليومترات، تقوم خلالها بتدمير الأنفاق التابعة لـ"حزب الله" في هذه المنطقة، وتأكيد خلوها من السكان، ثم بناء سور داخل الأراضي اللبنانية، وتلغيم المساحة بين هذا السور والسور الحدودي.ومن نافل القول إن لبنان سيعترض، وسيعتبر أن هذه عودة احتلال إسرائيلية لأراضيه، وإن هذه المرة من دون سكان لبنانيين يعيشون تحت الاحتلال، وسيطالب لبنان بالعودة إلى تطبيق القرار 425 للعام 1978 والقاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، وهو ما سترد عليه إسرائيل بالقول إنها مستعدة لتطبيق 425 مقابل تطبيق حكومة لبنان القرار 1559، أي حل "حزب الله"، وإن لم تقم دولة لبنان بذلك، فيمكن لإسرائيل الانتظار. أما إن حاول "حزب الله" شن "حرب تحرير" لاستعادة هذه المنطقة، فستكون حربا شاملة، ولا تكون نهايتها إلا بالعودة إلى مجلس الأمن مجددا لقرار جديد لن تقبل إسرائيل إلا أن يكون شاملا ينيط السيادة بأيدي حكومة يمكن محاسبتها دوليا، بدلا من ميليشيا لم تلتزم بقرار، ومضت تتقلب في مواقفها عبر العقدين الماضيين.هذه المرة في جعبة إسرائيل خطة من الجلي أنها محكمة جدا، كما ظهر حتى الآن من خلال أدائها العسكري المدروس، والمتفوق بما لا يقاس عن أي حرب بين جيش نظامي وقوات غير نظامية. وفي السياق نفسه، أعدت إسرائيل خطتين لنهاية الحرب، وهي بذلك ستخير اللبنانيين، وستمضي في الحالتين في إعادة سكان الشمال بأمان، بغض النظر عما سيختاره اللبنانيون.