أسابيع قليلة ويدخل الرئيس دونالد ترامب مرةً جديدةً إلى البيت الأبيض بصفته الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية. وبحسب الإجراءات البروتوكولية الأميركية، من المنتظر أن يتم تنصيب الرئيس الجمهوري في 20 يناير المقبل سيدًا جديدًا للبيت الأبيض، ليبدأ في هذا التاريخ ولايةً ثانيةً، وذلك بعد عودةٍ تاريخيّةٍ إثر فوزه الساحق قبل أسابيع قليلة على كامالا هاريس، المرشّحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي جو بايدن.التخوف من عودة ترامبولا يخفى على أحدٍ أن انتخاب ترامب على رأس أقوى دولة في العالم أثار مخاوف وقلق الكثيرين من الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، وذلك يعود لثلاثة أسباب رئيسة:السبب الأول: يعود إلى التباين الكبير بين سياسات الرئيس ترامب وتلك التي أرساها الرئيس جو بايدن في السنوات الأربع الماضية، وبالتالي صعوبة الانتقال والتكيّف بين سياسات الرئيسين النقيضين.السبب الثاني: يتعلّق بشخصية الرئيس ترامب الصدامية والمثيرة للجدل، وطريقة تعامله غير المرنة، والبعيدة كل البعد عن أبجديات الدبلوماسية، والتي تنفّر مَن يتعامل معه، وبشكلٍ أساسيّ الحلفاء قبل الخصوم.السبب الثالث: يرتبط بالإرث الصعب لولاية ترامب الأولى ما بين 2017 و2001، والذي يتخوّف الكثيرون من تكراره في ولايته الجديدة، والتي من المفترض أن تستمرّ حتى 2029.وعليه، بدأت العديد من الدول الاستعداد لعودة ترامب إلى البيت الأبيض والساحة الدولية مرةً جديدةً، وعلى رأس هؤلاء أوروبا، الشريك التاريخي والصديق "اللدود" للولايات المتحدة.فعلى الرغم من مسارعة زعماء أوروبا إلى تهنئة ترامب بانتخابه على رأس الإدارة الأميركية الجديدة، إلا أن الأوروبيين لم ينسوا أبدًا ويلات ولاية الرئيس ترامب الأولى. فقد كانت العلاقات خلال تلك الحقبة متوترة للغاية بين ضفتي الأطلسي. كما أن واشنطن كانت تعامل العواصم الأوروبية بتعالٍ وبمثابة "عدوٍّ" لها، ولم تكن تعاملها كحليفٍ وصديقٍ تاريخي لديهما الكثير من الروابط الوثيقة والصلات الصلبة المتعددة والتاريخية، التي جعلت دول العالم تطلق عليهما معًا "الغرب".الأكيد أن أوروبا، ومع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، لم تنسَ تحريضه على الاتحاد الأوروبي ودعمه بريطانيا للخروج من الاتحاد. كما أنها لا يمكن أن تنسى إشعال ترامب للحمائية التجارية مع الشركاء الأوروبيين خلال ولايته الأولى، بالإضافة إلى معايرته الأوروبيين بالحماية العسكرية الأميركية ومطالبتهم بدفع ثمنها. وطبعا، ليس بقدرة أوروبا أن تنسى أبدًا النزاعات "الصبيانية" خلال جائحة كورونا بين ضفتي الأطلسي حول شحنات الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي، واستعمال ترامب لطرقٍ وصفها البعض بـ"غير الأخلاقية" للاستيلاء على شحنات كان قد اشتراها الأوروبيون.أوروبا تستقبل ترامب على مضضوفي ظلّ هذه الذكريات المريرة الراسخة في وجدان الأوروبيين، تستعدّ القارة العجوز اليوم على مضضٍ لخوض جولة قديمة-جديدة من التعامل الصعب مع دونالد ترامب في ولايته الثانية، وذلك مع التركيز بشكلٍ أساسي على الملفات الثلاثة التالية:الملف الأوكراني: فأوروبا التي أغرقتها إدارة الرئيس جو بايدن حتى أذنيها في الحرب الأوكرانية، تجد نفسها اليوم أمام إدارة أميركية جديدة بسياسات متناقضة تمامًا، تريد الخروج سريعًا من هذه الحرب ولو كان ذلك على حساب الأوروبيين. وبالتالي، أوروبا التي رفعت السقف عاليًا أمام الروس، تقف اليوم أمام حلّين أحلاهما مرّ: إمّا مجاراة إدارة ترامب في إنهاء الحرب سريعًا، ولو كان ذلك سيؤدي إلى تقديم تنازلاتٍ صعبةٍ ومؤلمة للجانب الروسي، أو التوجه نحو تحمّل كلفة هذه الحرب بمفردها، وبعيدًا عن الدعم الرئيسي للولايات المتحدة الأميركية، العرّاب الأساسي لهذه الحرب.الحرب التجارية: ينتظر الجميع سياسات الرئيس ترامب في هذا الإطار، إذ يتوقع الكثيرون في أوروبا حدوث توترات تجارية جديدة مع الولايات المتحدة، خاصة مع نية الرئيس ترامب فرض رسوم جمركية على الواردات الأوروبية تتراوح ما بين 10 إلى 20%. وعليه، تستعدّ أوروبا لسيناريوهات عديدة للتعامل مع هذا الملف، تبدأ بالدبلوماسية والحوار، وحتى شراء المزيد من الغاز الأميركي، كما ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ولا تنتهي بالردّ بفرض رسومٍ مماثلة، وخصوصا على كبريات شركات التكنولوجيا الأميركية مثل "ميتا"، "غوغل"، و"أبل" وغيرها من الشركات الأخرى.ملف حلف شمال الأطلسي: تواجه أوروبا، مع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، تحديًا إستراتيجيًا جديًا يتعلّق بمستقبل حلف شمال الأطلسي، "حامي" التراب الأوروبي، خصوصا وأن ترامب قد يعيد النظر في التزام بلاده بهذا الحلف، وهو ما قد يؤدي إلى بلبلة أمنية في وقتٍ حساس.وفي هذا السياق، يعمل الأوروبيون على وضع مقاربات قديمة-جديدة للتعامل مع هذا الملف، منها دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى استقلالية دفاعية أوروبية عن الحلف. وفي موازاة ذلك، يتم الحديث عن مراجعة جادّة داخل الأروقة الأوروبية للسياسات الدفاعية والإنفاق، وعن ضرورة تعزيز الدور الأوروبي داخل الحلف وزيادة الإنفاق العسكري إلى 3% كحدّ أدنى. هذا، فيما سترسم قمة لاهاي المقبلة لحلف شمال الأطلسي في يونيو 2025 مسارات هذا الملف الشائك والحساس.اليوم، لا نستطيع أن نقول سوى أن أوروبا، التي كانت تفضّل بشكلٍ مفضوح المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس، تعيش على كوابيس الولاية الأولى للرئيس ترامب، وذلك مع عودته مرةً جديدةً إلى البيت الأبيض. ورغم الاستنفار التام في العواصم الأوروبية لرسم مقاربةٍ أكثر فاعلية للتعامل مع الإدارة الجمهورية الجديدة، يبقى السؤال الرئيسي: هل تنجح جهود أوروبا المنقسمة على نفسها في رسم علاقاتٍ "أقلّ صدامية" مع إدارة ترامب في ولايته الثانية تكون أفضل مما كانت عليه في ولايته الأولى؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه مرةً جديدة؟