بعد نهاية الحرب العالمية، قدّمت أميركا الديمقراطية الليبرالية، ومعه الرأسمالية الحرة، على أنهما الأفضل في العالم، وأطلق الخبراء اسم "إجماع واشنطن" على هذا النموذج، وراحت المؤسسات الدولية تعمل بكدّ لنشره في كل الدول. ولما لم ينتشر بالسرعة المطلوبة، بل أفضى إلى دول فاشلة يحكمها إسلام سياسي، صدّر هجمات 11 سبتمبر إلى الولايات المتحدة، قررت واشنطن التسريع من عملية نشر الديمقراطية وهندسة الدولة باستخدام القوة العسكرية، وأفضى ذلك إلى حربين في أفغانستان والعراق، أدى الفشل فيهما إلى خيبة أمل أميركية من "إجماع واشنطن"، الذي بدا في تراجع أمام "إجماع بكين"، وهذا ما لبث بدوره أن تعثّر، ليصبح العالم بلا نموذج حكم فاضل، وهو ما دفع اليمين المتطرف إلى تسلّق سلّم السلطة في غالبية الدول الغربية، مستخدمًا الديمقراطية نفسها لتقييدها وربما القضاء عليها، على غرار ما فعل نازيو ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي.ترامب يعامل أميركا كأنها شركة تجاريةنجحت بعض الدول، مثل المجر، في استغلال الديمقراطية لتقويضها، وما زالت الديمقراطيات الغربية تصارع من أجل البقاء أمام يمين غاضب وفي طريقه إلى الصعود. على أنّ الاستيلاء على السلطة أسهل من الحكم، فاليمين الذي يصل إلى السلطة، يجد سهولة في إطلاق الشعارات الانتخابية، وهو ما يبدو أنّ الرئيس دونالد ترامب يعاني منه، فهو لم يتخطَّ عتبة الـ100 اليوم، وتكاد الولايات المتحدة تبدو كالسيارة التي تسير بسرعة نحو الهاوية بدون مكابح. رؤية ترامب للدولة تختلف جذريًا عن العقلية الأميركية. ترامب يسعى لتقليص الاستيراد، وتاليًا تحويل البلاد إلى اكتفاء ذاتي، وهذه فكرة اشتراكية غير رأسمالية، وفي بعض الأحيان تتخذ أبعادًا شوفينية قومية، على غرار ألمانيا النازية. أما أميركا، فاقتصادها نهض، منذ قيامها، على التجارة الدولية، حتى أنّ إقامة الجيش كان هدفه حماية الأساطيل التجارية، ولذا يردّ في افتتاح نشيد المارينز (البحرية) "من أروقة مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس" الليبية. حتى أنّ رئيس أميركا مجبر في الحصول على المصادقة من الكونغرس لشن أيّ حرب، باستثناء في حالات دفاعه عن حركة الملاحة العالمية والسفن التجارية الأميركية، ولهذا لم يضطر الرئيس السابق جو بايدن لاستشارة السلطة التشريعية قبل إعلانه الحرب على "الحوثيين" في اليمن. التجارة الدولية هي التي صنعت القوة الأميركية الاقتصادية، وتاليًا العسكرية، الجبارة، وهي سبب انتشار الدولار عالميًا وتحوّله إلى الاحتياطي الدولي الذي تستخدمه الشعوب في تجارتها بين بعضها البعض. ترامب لا يعرف أيًا من هذه التفاصيل، بل يعامل أميركا وكأنها شركة تجارية في منافسة مع الدول الأخرى، من دون أيّ رؤية حول التكامل الاقتصادي والتحالف السياسي وغيرها. ولأنّ ترامب لا يدرك أين مكامن القوة الأميركية، فهو هزّها بشكل يهدد وقوع الاقتصاد في ركود، وهذا السبب الذي دفع ترامب إلى التراجع عن عدد كبير من قراراته، وفي طليعتها رفع الرسوم الجمركية على أكبر شريكتين اقتصاديتين للولايات المتحدةـ أي جارتيها كندا والمكسيك. وعندما رأى ترامب بوادر الأزمة وحجمها، تراجع أكثر من مرة. وفي الوقت نفسه، سلّم ترامب خفض الإنفاق الداخلي لأثرى رجال العالم إيلون ماسك، الذي راح يعامل الحكومة وكأنها شركة يمكن شراؤها وتخفيض إنفاقها، فتصبح بعد ذلك مصدر أرباح لسداد الدين العام. لكنّ تقليص الإنفاق بواقع ترليون دولار سنويًا، يؤدي إلى رفع نسبة البطالة بشكل كبير، وإلى تقليص نمو الناتج المحلي، فضلًا عن غضب مؤيدي ترامب ممن يعملون في الحكومة الفيدرالية وسينقلبون ضده. هكذا اكتشف ترامب أنّ الشعارات الرنانة عن كونه رجلًا قويًا وحاسمًا، ما هي إلا أفكار برّاقة على الورق، وأنّ تنفيذها أصعب بكثير، لا لصعوبة فرضها، بالعكس، ففرضها سهل جدًا، ولكنّ عواقبها وعدد الأميركيين المتأذّين منها، وتأثيرها السلبي على الاقتصاد، كلها تشوّه صورة ترامب التي يحاول تركها خلفه للتاريخ.ترامب يطلق شعارات رنانة وشعبويةالآباء المؤسسون كانوا قد تنبّهوا للمشكلة البنيوية هذه في الديمقراطية: ماذا يحصل عندما تختار الغالبية حكّامًا يُرضون الغرائز الشعبية، أي شعبويين، ولكن ممن لا خبرة لديهم في شؤون الحكم أو يمكنهم إساءة استخدام السلطة للحفاظ على الحكم. لهذا السبب، وزّع الآباء المؤسسون قوة الحكومة الأميركية على أجنحة السلطة، وجعلوا ولاية مجلس النواب قصيرة جدًا، أي سنتين، حتى لا يتسنى لأيّ رئيس أن يثبّت أقدامه لوقت كافٍ يسمح له بالاستئثار بالسلطة. كذلك، تلاعب الآباء المؤسسون بالديمقراطية لإضعاف سلطة الغالبية وحرمانها من أن تكون سلطة مطلقة، وهو ما يعطي الأقلية المعارضة قوة شبه دائمة للعرقلة في الحكم. وفي هذا السياق أقام المؤسسون نظام الكلية الانتخابية المعقّد، بدلًا من الأكثرية البسيطة أو النسبية، بهدف السماح للأقلية بالاحتفاظ بنوع من السلطة للتصدي للحاكم. هكذا ترامب، على الرغم من تسلّطه البادي، غير قادر على تمرير موازنة الحكومة أو قانون إنفاقها وتمويلها بدون دعم من الديمقراطيين في الكونغرس، تحت طائلة إقفال الحكومة أبوابها. لم يفهم ترامب السياسة الدولية أو الاقتصاد، ولا هو يفهم النظام الأميركي وكيف يسير. كل ما يعرفه أنه يطلق شعارات رنانة وشعبوية ووعود لا يقوى على تنفيذها، وهو ما يسمح له بالفوز في انتخابات مرة أو مرتين، ولكن لا يسمح له بالحكم المطلق الذي يسعى اليه ويتصوره. لكنه إلى أن يخرج من الحكم، يمكن لترامب أن يُحدث أضرارًا فادحًا بأميركا واقتصادها ومصالحها محليًا ودوليًا، وهذه ضريبة الديمقراطية، أنها تصيب أحيانًا، ولكنها تخطئ أحيانًا كثيرة أخرى، فيحطّم الحكّام المتهورون ما بناه الحكّام الحكماء. على أنّ ما صار واضحًا هو أنّ نجاحات أميركا هي بالرغم من نظامها السياسي وحكوماتها وسياساتها، لا بسببهم، وهو ما يعني أنّ النظام الأميركي، الذي يعرج حاليًا، قد يفيد الولايات المتحدة قليلًا، ولكنه حتمًا ليس الحل لكل الدول في كل الأوقات، فلكل دولة تاريخها وتجاربها ونجاحاتها وفشلها، وعلى كل شعب أن يحدد مصالحه ويختارها. بعد ذلك، لا ضير من التعاون، لكلّ حاجته ولكل بحسب مقدرته.