يشي تعيين القس البروتستانتي المعمداني مايك هاكابي سفيرًا للولايات المتحدة في إسرائيل بأنّ سياسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تجاه الدولة العبرية ستتغير بشكل كبير عمّا كانت عليه في ولايته الأولى، أي أنها ستتضاعف أضعافًا مضاعفة، وستجعل دعمه للإسرائيليين في ولايته الأولى يبدو خجولًا وحذرًا بالنسبة لدعمه المتوقع في ولايته الثانية، والتي تبدأ في 20 يناير.وقبل أن يقفز القرّاء إلى محاولة فهم توقعاتنا أعلاه من زواية نظرية المؤامرة، التي يعززها اعتقادهم الخاطئ أن سبب دعم ترامب المطلق لإسرائيل هو "سيطرة اليهود على الثروة المالية المصرفية والإعلام والدعاية وهوليوود"، لا بد من الإشارة إلى أنه على عكس سفير ترامب في ولايته الأولى إلى إسرائيل، اليهودي الأميركي دايفيد فريدمان، هاكابي هو من المسيحيين الإنجيليين القلائل ممن سيشغلون هذا المنصب.الفارق بين المذهبين هو الفارق في السياسةفي ولايته الأولى، عمد ترامب، مثل غالبية أسلافه من الرؤساء الأميركيين، إلى استرضاء الصوت الانتخابي للأقلية اليهودية الأميركية. لكن ترامب خاب ظنّه مرارا، إذ أظهرت استطلاعات من أدلوا بأصواتهم (exit polls) أن نسبة تتراوح بين 66 و79% من اليهود الأميركيين اقترعوا لمرشحة الحزب الديمقراطي كمالا هاريس، وأن أقلية من اليهود الأميركيين اختاروا ترامب.ولطالما حاول ترامب استرضاء الناخبين اليهود الأميركيين في الماضي، وعاتبهم لأن غالبيتهم اقترعت لمنافسيه الديمقراطيين هيلاري كلينتون وجو بايدن، ودعاهم لاختياره في الانتخابات الأخيرة، وذكّرهم بأنه قدم لإسرائيل ما لم يقدمه أي رئيس سبقه لناحية نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان. مع كل هذا التضرع، بالكاد بلغ تأييد اليهود الأميركيين لترامب في هذه الانتخابات الرئاسية عتبة الثلث.والحال هذه، لماذا يتضاعف دعم ترامب لإسرائيل في وقت لم تنحاز إليه غالبية اليهود الأميركيين؟ الإجابة تكمن في أن دعم ترامب لإسرائيل مستقبلا لا يرتبط باليهود الأميركيين، ولا حتى بإسرائيل نفسها، بل هو لإرضاء المسيحيين البيض، الكتلة الناخبة الحاسمة في وصول ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية.وتبلغ نسبة المسيحيين البيض الأميركيين قرابة 45% من السكان، ثلثهم من الإنجيليين، فيما يبلغ نسبة المقترعين في صفوفهم قرابة الثلثين من اجمالي المقترعين بسبب رعاية الكنائس تنظيمهم انتخابيا وحثّهم على الاقتراع. ولأن غالبية هؤلاء المسيحيين البيض هم من الطبقة الوسطى، فهم يقترعون بكثافة أكبر، مقارنة بأبناء وبنات الطبقات الأدنى ممن يآثرون البقاء في عملهم وتفادي التصويت الذي يأتي غالبا على حساب رزقهم اليومي.أما السؤال الثاني، فهو التالي: ما الذي يربط المسيحيين البيض الأميركيين بدولة اليهود الشرق أوسطية؟ الإجابة الأكثر شيوعا هي أن المسيحيين البيض الأميركيين، وخصوصا الإنجيليين منهم، يؤيدون بغالبيتهم الساحقة دولة إسرائيل لأسباب دينية، أولها لاعتبارهم أن يسوع المسيح كان نفسه يهوديا، وأن عودته ونهاية الزمان ترتبطان بمعركة ارماغادون بين إسرائيل وقوى منافسة.تفاصيل الرواية الدينية لا تتسع في هذه السطور القليلة. ما يهمنا هو أن دعم المسيحيين البيض لدولة إسرائيل هو دعم مستقل عن السياسة الخارجية الأميركية، كما عن سياسات إسرائيل أو عن علاقة إسرائيل بالفلسطينيين. هذه الأهمية الفائقة لإسرائيل في عيون المسيحيين الأميركيين لقنت الرئيس السابق باراك أوباما درسا مفاده أنه في عالم السياسة في الولايات المتحدة، لا تندرج إسرائيل تحت خانة السياسة الأميركية الخارجية، بل الداخلية، حسبما أورد الرئيس السابق في كتاب مذكراته. بكلام آخر، يؤدي اتخاذ أي رئيس أو سياسي أميركي مواقف ضد إسرائيل إلى غضب أميركي داخلي مستقل عن موقف حكومة إسرائيل أو ساستها.هذه الأهمية لإسرائيل في عيون غالبية الأميركيين هي التي لا تفهمها غالبية العرب والفلسطينيين. العرب، من ناحية، يتعجبون: لماذا تنحاز أميركا لعشرة ملايين يهودي في وجه 350 مليون عربي في أراضيهم موارد طاقة ضخمة؟ بدورهم، يتعجب الفلسطينيون كيف تنحاز الحكومة الأميركية لإسرائيل في وجه ما يراه الفلسطينيون وضوحا في القانون الدولي والرأي العام الدولي لمصلحتهم؟ أي أن الفلسطينيين غالبا ما يتعجبون لما تختار أميركا إسرائيل ضد العالم.الأميركيون ينحازون لإسرائيلالإجابة على السؤالين، العربي والفلسطيني، هو أن حسابات واشنطن تجاه إسرائيل هي حسابات أميركية داخلية بحتة، وهي ترتبط بالغالبية المسيحية الأميركية ولا تتأثر بالأقلية اليهودية الأميركية.على مدى العام الماضي، خرجت تظاهرات في الجامعات الأميركية منحازة للفلسطينيين، ومثلها كانت مواقف غالبية النخبة الأميركية، وهو ما دفع بعدد كبير من العرب والفلسطينيين للاعتقاد أن الرأي العام الأميركي بدأ يتخلى عن إسرائيل وينحاز إليهم. لكن حتى في ذروة حرب غزة، أظهرت استطلاعات الرأي الأميركية، بشكل لا يقبل الشك، أن 80% من الأميركيين ينحازون لإسرائيل، و20% للفلسطينيين. وعندما أعلنت غالبية الفلسطينيين تأييدها للمرشحة الثالثة جيل ستاين، بدا أن حجم الفلسطينيين السياسي أصغر حتى مما هو عليه في الشارع، اذ بالكاد حصلت ستاين على نصف نقطة مئوية من اجمالي الأصوات في البلاد، فيما تبلغ نسبة المسلمين في أميركا 2%. كيف يمكن للعرب والفلسطينيين التعامل مع تفضيل أميركا لإسرائيل؟ الإجابة الأمثل هي في قول علي بن أبي طالب "إن لم يكن ما يريد، فأرد ما يكون"، لأن البديل هو ما دأب الفلسطينيون على ممارسته على مدى عقود، وبدون أي نجاح، أي معاداة الولايات المتحدة، والتحالف مع قوى "الجنوب العالمي"و"بريكس" وغيرها. في عام 2016، طلب ترامب من إيران، بوساطة أوروبية، تعديلات تجعل بعض البنود دائمة ولا تنتهي صلاحياتها، ووعد بعدم الانسحاب من الاتفاقية النووية في حال استجابت طهران. رأت طهران نيوب الأسد، فاعتقدت أنه يبتسم، وأنه ضعيف، خصوصا أن الأوروبيين وعدوا بالبقاء في الاتفاقية في حال انسحب الأميركيون، وهو ما حصل، ليتبين أن لا قدرة لأوروبا على الوقوف في وجه ضخامة الاقتصاد الأميركي وقدرته العقابية، وهو ما أدى إلى تحطيم الاقتصاد الإيراني وأرسل الريال في رحلة انهيار مستمرة حتى اليوم.دعم وتأييد أميركا بقيادة ترامب لإسرائيل سيتضاعفان، والأفضل للفلسطينيين العمل على هذا الأساس، لا مقاومته والاعتقاد أن يمكنهم التغلب عليه.