لا يبدو أن لبنان أو "حزب الله" يدركان الجدية المطلقة لإسرائيل والولايات المتحدة بضرورة قيام الحزب اللبناني بحلّ جناحه العسكري وتحوله إلى حزب سياسي حصرا، وهو ما أدى إلى تلكؤ بيروت في تنفيذ اتفاق "الآلية" الذي وقعته مع تل أبيب في 27 نوفمبر، إذ منذ ذلك التاريخ، قام الجيش اللبناني بإغلاق قواعد التنظيمات الفلسطينية وملاحقة عصابات تجارة المخدرات في البقاع، شرق البلاد، ونشر بيانات وصور حول نشاطاته. لكن منذ ذلك التاريخ أيضا، لم يعلن الجيش اللبناني مصادرته ولا طلقة واحدة يملكها "حزب الله" في عموم الأراضي اللبنانية، فيما استعرض الجيش الإسرائيلي مصادرته 85 ألف قطعة سلاح وذخيرة في مساحة الكيلومترات الخمسة الحدودية التي يسيطر عليها.منطقة عسكرية إسرائيلية مغلقة في جنوب لبنانوزيادة في الطين بلّة، زار رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي برفقة قائد الجيش جوزف عون مناطق في الجنوب اللبناني، ربما للإيحاء أن دولة لبنان استعادت السيادة على هذه المناطق. وفي هذا السياق، أعلن ميقاتي أن لبنان أوفى بالتزاماته تجاه اتفاقية وقف إطلاق النار، وأنه حان الوقت ليمارس المجتمع الدولي الضغوط على إسرائيل لتوقف ضرباتها داخل لبنان وللانسحاب من المناطق التي لا تزال تسيطر عليها. ولم يكد ميقاتي ينهي تصريحاته حتى أعلنت إسرائيل أن مقاتلاتها قصفت راجمات صواريخ متوسطة المدى تابعة لحزب الله كانت تغيّر مواقعها. لم يفهم لبنان فداحة الوضع أو جدية إسرائيل المطلقة بحلّ "حزب الله" عسكريا بالكامل، وربما اعتقد بعض اللبنانيين أنهم، على عادتهم، يمكنهم التحايل على القرارات بالسوفسطائية الكلامية والتذاكي و"تدوير الزوايا"، مثل في التحايل على الدستور، الذي يطلب صراحة حلّ كل الميليشيات بعد نهاية الحرب اللبنانية، فقام حكام لبنان بوصف "حزب الله" بـ"المقاومة"، ثم لجأوا إلى بهلوانيات إنشائية في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة لتبرير استمرار بقاء السلاح. هذه المرة لن تنفع افتتاحيات مؤيدي "حزب الله" كمت نجحت في تقويض المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. ولن يكون للحزب فرص عسكرية بعد تفادي إسرائيل "احتلال" أي سكان لبنانيين، كما فعلت في عقود احتلالها للجنوب اللبناني، إذ إن البلدات الستين التي تسيطر عليها إسرائيل اليوم لا تزال خالية من السكان، وهو ما يسمح بتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة، ويحرم إمكانية شن عمليات لقتل الجنود الإسرائيليين، وهو ما يعني أن أي عملية "مقاومة" ستتطلب حكما تراشقا بالصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، وهو ما يشعل الحرب المدمرة بأكملها مجددا بدلا من أن يكون ورقة ضغط في أيدي الحزب اللبناني لاستنزاف الجيش الإسرائيلي، كما في الماضي. ثم إن إسرائيل أبدت جدية مطلقة غير قابلة للتفاوض في موضوع مقايضة المنطقة العسكرية التي تسيطر عليها بنزع سلاح "حزب الله" وضمان دولة لبنان لحدود إسرائيل الشمالية. إلى أن يحصل ذلك بطريقة ترضي الإسرائيليين، ستواصل إسرائيل احتفاظها بهذه المساحة اللبنانية، من دون أن يكون لدى اللبنانيين أوراق عسكرية أو دبلوماسية للضغط المضاد."ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"دبلوماسيا، لن يصدر مجلس الأمن أي قرار يطلب من الإسرائيليين الانسحاب، وإن ذهبت الأمور نحو الدبلوماسية، فالموقف الإسرائيلي أقوى لأنه معزز بقرار 1701 واتفاقية وقف إطلاق النار التي حددت تماما كيفية تطبيقه. وإسرائيل، التي تعرف أسرار "حزب الله" أكثر من قادة الحزب أنفسهم، لا يمكن التلاعب عليها بالتظاهر أن القرار تم تطبيقه إن لم يكن قد تم فعلا.أما من ناحية "حزب الله"، فعليه إضافة بعض الحسابات المحلية إلى مشكلة ضعفه أمام إسرائيل عسكريا ودبلومسيا. في لبنان، يعاني مؤيدو "حزب الله" النتائج الكارثية للحرب التي شنها الحزب اللبناني، أولها موت أكثر من 5 آلاف شاب شيعي من مقاتلي الحزب، وثانيها عدم العثور على جثث أكثر من 800 منهم حتى الآن. حتى جثة الأمين العام الراحل حسن نصر الله لا يزال متعذرا دفنها. ثاني المشاكل أن 60 بلدة جنوبية لا تزال في المنطقة العسكرية المغلقة. أما في المناطق التي تمكن الحزب من مسحها، فقد ظهر أن أكثر من 40 ألف وحدة سكنية تدمرت بشكل كامل، و60 ألف وحدة بشكل جزئي، وهذا ما سيتطلب أموالا هائلة لا يملكها الحزب، ولا إيران راعيته، لتأمينها وإعادة العائلات النازحة إلى بيوتها. في 2006، بعد نهاية الحرب، نجح "حزب الله" في امتصاص غضب مؤيديه من الدمار الذي أصابهم بإشعال الخلاف الطائفي وتحريض الشيعة ضد رئيس الحكومة السني فؤاد السنيورة، واتهامه بالعمالة وبالتسبب بالكارثة. لكن هذه المرة، حكام لبنان هم من أزلام الحزب ولا يمكن توجيه أصابع اللوم إليهم، أو توجيه غضب مؤيدي الحزب في اتجاه خصوم الداخل. هذا يعني أن الحزب اللبناني سيعاني من غضب حاول امتصاصه بتوزيع بعض أموال "إعادة الإعمار". لكن الشيكات أظهرت ضمور قدرة الحزب المالية، حتى أن بعض الشيكات كانت بمبالغ زهيدة، مثل 50 أو 72 دولارا. الحكمة تعني الواقعية، والواقعية تعني أن في الحرب انتصار أو هزيمة، وتقضي بعدم تصوير الهزيمة انتصارا لأن المضي في المواجهة سيأتي بالمزيد من المآسي، وهذا ضرب من ضروب الجنون التي نهى عنها التنزيل الكريم كما في الآية "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". والسلام.