نجتاز في بلدان منطقتنا مرحلة تاريخية يطبعها نزوع قوي نحو المراجعة وإعادة النظر في الأسس والمرجعيات والقواعد الكبرى، وهي مهام ووظائف تظهر عند نهاية حقبة من التاريخ وبداية أخرى جديدة، فسواء تعلق الأمر بالتاريخ أو الآداب أو بالفكر الديني والمعارف التقليدية، فيبدو أنّ العدّ العكسي لغربلة المنظومة التراثية بشكل شامل وغير مسبوق قد انطلقت فعلًا كما تنبأنا بذلك لأكثر من مرة، فثمة عوامل ووقائع كثيرة تضافرت جميعها في العقد الأخير لتجعل استمرارية الكثير من بديهيات التفكير القديم وقواعده أمرًا مستحيلًا.خلال هذه المراجعات الكبرى ما فتئ يتبين خطأ الأسس التي قام عليها الفكر الفقهي التراثي لمدة قرون طويلة، حيث تم عرض الكثير من قواعد الفقه القديم على محك النظر، ما أدى إلى كشف تناقضاتها مع العلم والمنطق، ومع الواقع، ومع الأخلاق، بل ومع روح الدين نفسه، ما أدى إلى نتائج وخيمة لأخطاء الفقه الإسلامي على واقع الناس وحقوقهم الأساسية في عصرنا، الذي صار عنوانه بشكل واضح لا لبس فيه: الثورات العلمية وحقوق الإنسان.غير أنّ أخطاء الفقهاء التي يتم تداركها اليوم بالتدريج من خلال مراجعة القوانين في ظل الدولة الحديثة، لم يقوموا قط بالاعتذار عنها، فقد قالوا لمدة طويلة بأنّ على المرأة لزوم بيتها وعدم الخروج منه إلا "لضرورة قصوى"، وحددوا "الضرورات" ووصفوا حتى شكل اللباس الذي ينبغي للمرأة أن تخرج به من البيت، ووصلوا إلى حدّ أن دققوا معها بأنّ عليها ألا تنظر إلا "بعين واحدة" من وراء "حجابها" الداكن، وعندما خرجت المرأة خلال القرن العشرين إلى التعليم والدراسة، وحصدت الشهادات العليا وتولت المناصب السامية وأثبتت كفاءتها في كل المجالات سكتوا على مضض، لكنهم لم يعتذروا أبدًا عن أزيد من 1,200 سنة من "الحريم" الذي عزل المرأة المسلمة وجعلها في وضعية القاصر وأبعدها عن مناصب الدولة وعن تدبير الشأن العام، بل وحرمها حتى من الولاية عن نفسها وعن أطفالها.طبعًا من المعلوم أنه لم يسبق لرجال الدين في التاريخ كله أن قبلوا بالتراجع عن أفكارهم "الأورثوذكسية" من تلقاء أنفسهم، بل إنهم لا يفعلون إلا بضغوط وإكراهات كبيرة إما من الحكام وأرباب السلطان، أو من الواقع الذي يتجاوزهم ويضطرّهم إلى الالتحاق به."ثوابت الشريعة"ويبقى السؤال المطروح حاليا هو ما إذا كان هذا التمييز الذي نعتمده بين الفقه والدين سيصلُ إلى مداه بالتركيز على مشكلة القراءة وقواعد التفسير والتأويل والاجتهاد التي نحتها ذلك الفقه القديم في قراءته للأصول، هذه القراءة التي ظلت حتى اليوم تمنع الفكر الديني الإسلامي من مواكبة ثورات الواقع وتحولاته الجذرية. ومن جهة أخرى سيكون على فقهائنا أن ينتبهوا إلى أن في عمق ما يسمونه "ثوابت الشريعة" توجد أحكام مرتبطة بدورها بـ"قضايا عصرها" وببنيات سوسيو ـ ثقافية وسياسية لم تعد قائمة اليوم، ما يعني ضرورة توسيع دائرة المتحول وتضييق دائرة "الثوابت" لتشمل فقط مجال العقيدة، طالما أنّ كل ما يتعلق بالدولة والمجتمع وبواقع التجربة الإنسانية لا يتوقف عن الانقلاب والتغيّر من عصر لآخر، ويستحيل كليًا احتواؤه وتدبيره بنصوص ثابتة أو "قطعية".ومن جانب آخر يُطرح بشكل جدّي، أمام بدايات التغيير والمراجعات الكبرى هذه، مسألة تغيير برامج ومناهج ومضامين التعليم الديني، والتي ما زالت تعتمد أمورًا يندى لها الجبين، كما من واجب الفقهاء والمجامع والمؤسسات الدينية الرسمية التفكير في الاضطهاد الذي تعرض له الكثير من المفكرين والمثقفين والباحثين على مدى القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، بسبب دعوتهم من قبل إلى ما نقطف اليوم ثماره، وهو ربطهم آراء الفقهاء بسياقاتها التاريخية وإزاحة التقديس عنها والدعوة إلى تجديد الفكر الديني وتغيير منطقه الداخلي والتمييز بين الدين واجتهادات البشر في الفهم والتفسير والتأويل. بل إن حتى ما أعلنه بعض الساسة اليوم من تمييز بين "خبر الآحاد" و"خبر التواتر" في الحديث هو تمييز ركز عليه سابقا الكثير من المفكرين العلمانيين الذين دعوا إلى عدم اضطهاد المجتمعات والتضحية خصوصًا بكرامة ملايين النساء اعتمادًا على أخبار مروية 90% منها مشكوك فيها ولا مصداقية لها.فبعودة بعض الدول اليوم إلى إقرار ما قاله هؤلاء يثبت أنّ الحق كان بجانبهم، ما يقتضي من المشايخ والفقهاء والدعاة التحلي بالشجاعة وإعلان اعتذارهم عن كل المظالم التي دعوا إليها منذ بدء الأزمنة الحديثة، وعن التأخير الذي تسببوا فيه لبلدانهم التي ما زال بعضها يحاول العودة في الأحوال الشخصية إلى "زواج بنت التسع" (ويا للكارثة !) ، عليهم أن يعتذروا كما فعلت الكنيسة برحابة صدر، عندما أعلنت أمام العالم اعتذارها عن كل أشكال الظلم والحجر والقتل والتعذيب والتضليل التي مارستها خلال تاريخها الطويل ضدّ العلماء والمفكرين والمبدعين وضد النساء بنسبة كبيرة. بل إنّ الكنيسة اعتذرت عن أشياء كانت تعرضها في متاحفها على أنها تعود إلى عصر عيسى بن مريم، بعد أن أظهر التحليل المختبري الدقيق أنها تعود فقط إلى بضعة قرون خلت.ولهذا سيكون من النبل أن يعتذر المشايخ، ولكن سيكون أكثر مردودية أن يقرروا عدم العود إلى ما سلف من تقليد أعمى للمتون والحواشي القديمة، على حساب الكرامة الإنسانية.