ربما لم يكن يتوقع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن المحادثات مع دمشق ستكون بهذه الصعوبة والتعقيد، فالمسألة عند الرئيس التركي أنه يريد التراجع عن خطأ ارتكبه، وتصحيح ما حدث بين البلدين خلال 11 عاماً بشهور إن لم نقل في أيام! أي قبل الانتخابات النيابية والرئاسية التركية المقررة في يونيو المقبل! أما في الجانب الآخر، فترى دمشق أن ما قام به إردوغان من انقلاب على الاتفاقيات والتفاهمات التي وُقعت بين البلدين قبل عام 2010، وصلت إلى حد إلغاء التأشيرة لمواطني البلدين وتشكيل "المجلس الإستراتيجي السوري التركي" وإجراء مناورات عسكرية مشتركة، ما يتطلب منه القيام بخطوات تُعيد الثقة المفقودة بين الجانبين. إردوغان اليوم يريد القفز إلى النتائج من دون معالجة الأسباب، وهذا ما لا تقبل به دمشق، صحيح أن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو وبعد يوم من لقاء وزراء الدفاع في موسكو أعرب عن نية أنقرة نقل السيطرة بمناطق وجود القوات التركية في سوريا إلى الحكومة السورية في حال تحقق الاستقرار، لكن دمشق ترى أن الوعود لا تكفي، فالرئيس التركي سبق وأن تجاوز حدوده من خلال تدخله في الشأن الداخلي السوري عبر إدخال المقاتلين الأجانب، وتقديم الدعم العسكري الكبير للمجموعات الراديكالية المسلحة، وعبر مشاركته في قيادة "غرفة الموم" التي كانت تضم ضباط استخبارات أجنبية لدعم الفصائل التابعة للائتلاف السوري المعارض، تحت اسم "المجلس العسكري". كل ذلك برأي دمشق قد لا يمحوه إلا أمران يجب أن يُقدم عليهما إردوغان، وهما إنهاء "الاحتلال"، ووقف دعم الإرهاب، بحسب ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد أثناء لقائه الأخير مع ألكسندر لافرنتييف المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس الماضي. تصريحات الأسد أربكت إردوغان فعلاً، وأدت إلى تأجيل انعقاد لقاء وزيري خارجية البلدين فيصل المقداد ومولود جاووش أوغلو برعاية روسية، ما أظهر أن حسابات الزعيم التركي تختلف كلياً عن حسابات الأسد الذي أكد خلال لقائه لافرنتييف "أن اللقاءات مع تركيا حتى تكون مثمرة فإنها يجب أن تُبنى على تنسيق وتخطيط مسبق بين سوريا وروسيا من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سوريا من هذه اللقاءات انطلاقاً من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب". ما صرح به الرئيس الأسد يؤكد أن دمشق ليست مستعجلة لمصالحة إردوغان والتقاط الصور معه ومع وزير خارجيته، لسببين، الأول: أنها لن تعطي شيئاً من دون مقابل، والثاني: أن المعارضة التركية كانت قدمت عرضاً للحكومة السورية تضمن إنهاء "الاحتلال"، ودفع تعويضات، وإعادة اللاجئين، وإقامة علاقات دبلومسية بين البلدين، فإذا كان هذا ما عرضته المعارضة التركية، فلماذا تُعطي دمشق إردوغان ما يريده، وهو الذي تسبب برأيها بكل هذا الدمار في سوريا؟! دمشق تنتظر ما ستسفر عنه اللجان التي تشكلت بعد اجتماع وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا في موسكو في 28 ديسمبر الماضي، بمشاركة رئيسي استخبارات الدولتين، وهو اللقاء الأول من نوعه بين الطرفين منذ سنوات. إذاً نحن اليوم أمام مرحلة حرجة ومفصلية، فهل سيوافق إردوغان على شروط الأسد؟ وبالتالي يسحب الورقة السورية من يد المعارضة التي قد تفوز في الانتخابات المقبلة، معتمدة على أن 64.3% من المجتمع التركي يدعم التقارب السوري التركي بحسب استطلاع لمركز "Areda" التركي للأبحاث، وهؤلاء أغلبهم يؤيد عودة اللاجئين، إضافة إلى قلق الشارع التركي من التدهور المتواصل للوضع الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة التركية، وهو ما تنسبه المعارضة إلى سياسة إردوغان التي سمحت بتزايد أعداد اللاجئين السوريين الذين تسببوا بدورهم في بطالة الكثير من الأتراك، وفقدانهم أعمالهم. القضية الجوهرية هي أن القيادة التركية الحالية تفكر باتجاه واحد، هو محاربة "قسد" ومنع قيام كانتون كردي على حدودها الجنوبية، لكنها لم تقدم حتى الآن أي وعد بتفكيك "جبهة النصرة"، أو الجماعات الراديكالية المنضوية تحت ما يُسمى "الجيش الوطني"، كما أن تصريح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن من أن العملية العسكرية التركية البرية في شمال سوريا قد تبدأ في أي لحظة، يؤكد أن أنقرة ليست جِدّية في المحادثات مع دمشق، وهي تسعى لاتخاذ خطوات أحادية، فأي اعتداء على الأراضي السورية تعتبره سوريا اعتداءً جديداً على سيادتها، وبالتالي لن تستطيع الاستمرار في المحادثات مهما كانت الوعود التركية، لأن الموضوع يتعلق باعتداء واحتلال جديد لأراضيها.