مع حلول أبريل المقبل، ستلفظ سياسة بقاء الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية أنفاسها الأخيرة. وهي سياسة ظلت تقاطعية المصالح، فلسطينيا، إسرائيليا، إقليميا ودوليا، حتى تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو ذات المركبات الأكثر يمينية وتطرفا. وفي حين تتشكل حالة شبه إجماع بين التقديرات المختلفة بشأن توقع الانتقال إلى سيناريو آخر، فإن التباينات تنحصر في طبيعة هذا السيناريو، وحدود القدرة على لجم المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية المقبلة، سياسيا وميدانيا، على الأقل من حيث ضبط منسوب الصراع لدرء مخاطر الانفجار الشامل. يتركز الخلاف على طبيعة المواجهة، ومدى اتساع رقعتها، ومن أين ستنطلق شرارتها الأولى. أما توقع التوقيت في أبريل المقبل، كانعطافة في الصراع، فيعود إلى تطورات متسارعة تُراكم فيها حكومة نتنياهو اتخاذ إجراءات تُقرّب من لحظة احتدام المواجهة. فهناك عشرات البنود ضمن الخطوط الأساسية لحكومة نتنياهو والاتفاقات الإئتلافية بين حزب الليكود وحلفائه، خصوصا أحزاب "الصهيونية الدينية"، سيتم ترجمتها إلى تشريعات في الكنيست وإجراءات عملية، خلال أول 60 يوما من عمر الحكومة. السيناريو السيء سوف تشمل هذه العملية مجالات واسعة غايتها تسريع ضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية ضمن المنطقة المصنفة (ج) وفق تقسيمات اتفاق أوسلو، وتزيد مساحتها عن 60% من أراضي الضفة الغربية. وتتضمن هذه العملية توسيع الاستيطان، وشرعنة عشرات المناطق الاستيطانية، وتزويدها بالبنية التحتية من شبكات مواصلات واتصالات وكهرباء ومياه وصرف صحي، مع منع البناء الفلسطيني في هذه المناطق، تحت شعار "فرض السيادة على يهودا والسامرة". ويترافق ذلك مع تصعيد اقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى المبارك، والسماح لهم بأداء طقوس دينية، وربما الاستجابة لمطالب "الحركات الكاهانية" بتخصيص مكان للصلاة داخل الحرم القدسي الشريف. ناهيك عن الهجمة المتصاعدة على الأسرى في السجون الإسرائيلية، والسعي لتشريع إلزامية فرض عقوبة الإعدام على الأسرى من منفذي العمليات. على الصعيد الميداني، سوف تدفع الأحزاب الفاشية في الحكومة، لاسيما "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و"قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير، نحو استخدام أقصى حدود القوة وتسهيل تعليمات إطلاق النار ضد الفلسطينيين، مع عدم استبعاد تنفيذ عمليات عسكرية واسعة ضد المجموعات الفلسطينية المسلحة، مثل "كتيبة جنين" و"عرين الأسود" في نابلس، قد تصل إلى حد فرض عمليات إغلاق وحصار واجتياحات شاملة لمناطق في شمال الضفة الغربية. سيكون من الصعب أن تجبي الآلة العسكرية الإسرائيلية ثمنا باهظا من دماء الفلسطينيين في هكذا عمليات، من دون توقع حدوث صدام مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، سواء بقرار رسمي أو من دونه، أو حتى رد فعل من الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، بما ينذر بحرب مدمرة جديدة ضد القطاع. هل من انفجار وشيك؟ اللافت من حيث التوقيت أن جزءا كبيرا من هذه السياسات والإجراءات سوف ينفذ مع الاقتراب من حلول شهر رمضان المبارك في الأسبوع الأخير من مارس المقبل، بالتزامن مع الأعياد اليهودية في منتصفه، والتي توظف لتصعيد محاولات اقتحام المسجد الأقصى من قبل اليهود، والتضييق على حرية العبادة للمسلمين. وهو ما يشير إلى تزايد المخاوف من انفجار وشيك خلال هذا الشهر مع وصول الاتجاهات "الصهيونية الكاهانية" إلى سدة الحكم. وقد عبّر عن ذلك سياسيون ومراقبون إسرائيليون أيضا، من أمثال رئيس الحكومة السابق يائير لابيد بقوله "أنا قلق بأن ايتمار بن غفير يقربنا من انتفاضة ثالثة"، وشاركه في القلق ذاته وزير الحرب السابق بيني غانتس، ومسؤولون أمنيون سابقون. كما حذر ملك الأردن عبد الله الثاني من حدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة في مقابلة مع CNN يوم 28 ديسمبر المنصرم. في الواقع يصعب التنبؤ أين ستندلع شرارة المواجهة المقبلة، سواء من داخل باحات المسجد الأقصى المبارك، أو من جنين ونابلس، أو من السجون الإسرائيلية، أو قطاع غزة، أو حتى من المدن والبلدات الفلسطينية داخل "الخط الأخضر". لكن المؤكد أن إسرائيل ما بعد الانتخابات الأخيرة، لم تعد كما كانت قبلها. فقد أفرزت الانتخابات حكومة تعد الأكثر يمينية وتطرفًا، وتضم مكونات تؤمن بوجوب تحقيق ما أخفق في تحقيقه قادة الحركة الصهيونية حتى النكبة في العام 1948، من حيث استكمال إقامة "إسرائيل الكبرى" وطرد جميع سكان فلسطين التاريخية. ولذلك، فهؤلاء لا يخفون أجندتهم الرامية إلى تحقيق انتصار المشروع الصهيوني بالوصول إلى مرحلة حسم الصراع بفرض ما يسمى "السيادة" الإسرائيلية على الضفة الغربية، وتهيئة بيئة طاردة للفلسطينيين من وطنهم، وإخضاع من يتبقى. مطلوب استراتيجية فلسطينية شاملة! ويفرض كل ذلك تحديات لا يستطيع الفلسطينيون تجاهلها، أهمها أن المواجهة المفروضة عليهم باتت تقتضي التحول باتجاه تبني مسار استراتيجي بديل يغادر مواقع رد الفعل الآني والتمسك بسياسة بقاء السلطة بشكلها ووظائفها الراهنة، وانتظار ما قد لا يأتي أبدا عبر مفاوضات لا تؤمن بها أصلا الحكومة الإسرائيلية، بل وتضم أحزابا لا ترى مبررا لوجود سلطة مركزية فلسطينية تطمح للتحول إلى مشروع دولة مستقلة، وتحبّذ تفكيكها وانهيارها لصالح تفريخ سلطات محلية في كل من مدن الضفة، تخضع لما يسمى "الإدارة المدنية" التي سوف تتوسع صلاحياتها بنقل المسؤولية عنها إلى الوزير المتطرف سموتريتش، أحد أبرز نشطاء "شبيبة التلال" الاستيطانية التي شكلت في عهد رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون. غير أن اعتماد استراتيجية فلسطينية شاملة لتعزيز الصمود الفلسطيني والتصدي لمخططات تعميق الاستيطان والعنصرية، يتطلب توفير متطلبات مثل هذا التحول عبر إنهاء الانقسام الداخلي وإعادة بناء الوحدة الوطنية في مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، على أساس معادلة تنهي سيطرة حركة حماس الانفرادية على قطاع غزة، كما تنهي هيمنة حركة فتح على المؤسسات الوطنية. وهو ما يعني التوافق على أسس الشراكة السياسية وفق برنامج وطني مستند إلى تطبيق قرارات الهيئات العليا للمنظمة، وخصوصا فيما يتعلق بإعادة النظر في العلاقات الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل، والتوجه إلى العمق العربي لبناء موقف عربي جماعي داعم للخيارات الفلسطينية، وكذلك إطلاق تحرك سياسي فلسطيني عربي قادر على نقل المواقف الدولية من حيز استنكار السياسات والانتهاكات الإسرائيلية إلى اتخاذ إجراءات رادعة لدولة ضدها. من شأن إخفاق القيادة الفلسطينية في بناء متطلبات الوصول إلى نقطة تحول إستراتيجي، أن يحفّز في المقابل استمرار التحولات التي تتوسع في الفضاء الفلسطيني، مع نشوء حراكات ومبادرات يتصدرها الشباب، من خلال أشكال من العمل السياسي والكفاحي التي تتطور خارج المنظومة السياسية التقليدية، أي خارج منظمة التحرير والسلطة والفصائل السياسية. وهي تشكيلات وحراكات ومجموعات مشتتة ومبعثرة، لكنها سوف تتلمس في نهاية المطاف طريقها نحو التشبيك والتنظيم وبناء رؤية مشتركة تتحوّل إلى موجات متلاحقة من الفعل الجماعي الشامل تحفزّه رغبة الشعب في إعادة التقاط زمام المبادرة للتصدي للهجوم الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وأرضه وحقوقه.