يخبرنا التاريخ أن رسول المسلمين (ص) ينحدر من قبيلة كانت تعتاش من انخراطها في تحالف تجاري، يعبر الصحاري مرتين كلّ عام، وهي مهنة أثرت قدماء العرب أيّما ثراء. ويخبرنا التاريخ أيضا أن ممالك فارس المتعاقبة احتقرت التجارة والتجّار، وعدّتهم في مصاف المهن الوضيعة، ومجّد الفرس القتال والفروسية دون غيرها.وفي الألفية السابقة للميلاد، ازدهرت التجارة بين حضارتي الرافدين والسند. كانت السفن لا تتقن الملاحة في عرض البحار، فتمشي بمحاذاة الساحل، الذي تحوّل بدوره إلى سلسلة من المحطات التجارية، كان أشهرها، جلفار في رأس الخيمة، والدور في أم القيوين، والجميرة في دبي، وجزيرة أبو موسى الإماراتية، وبيت قطريا أي قطر، وجزيرة دلمون، أي البحرين، وجزيرة خرك الإيرانية اليوم، وفي وقت لاحق جزيرة فيلكا الكويتية. هكذا نشأت أولى الممالك العربية على هذا الخط التجاري الذي يربط الهند، عبر بحر العرب وخليجه، بالبحر المتوسط، فقامت مملكة جرها في الأحساء، وميسان واسط، في الأحواز وجنوب العراق، والحضر في سهل نينوى، وتدمر في بادية الشام، وإلى غربها مملكة حمص، فمملكة الإيطوريين في البقاع اللبناني، وجنوبا من بصرى الشام حتى بترا فالعلا، كانت مملكة الأنباط، وفي أقصى الجنوب في اليمن كانت مملكتا معين وسبأ. لم تتزامن هذه الممالك فبعضها، مثل ممالك الجنوب في اليمن، سبق بعضها الآخر بأزمنة، وكانت آخرها زمنيا مملكة تدمر، في القرن الميلادي الثالث، إلى أن استعاد العرب السيادة مع صعود الأمويين في دمشق في القرن الميلادي السابع.هدف إيران احتكار حركة التجارة في إيران، كانت أولى الممالك عيلام، التي راح قراصنتها ينقضّون على تجارة العراقيين، فما كان من ملوك بلاد الرافدين إلا أن وظّفوا بحارة من الفينيقيين، وكانوا أول من أتقن خوض البحار بين الحضارات البشرية. وشنّ العراقيون وبحّارتهم الفينيقيون حملة تأديبية عبر الخليج ضد جيرانهم الإيرانيين. لكن الإيرانيين ظهروا مرارا في الأزمان اللاحقة، كانت آخرها في القرن الميلادي الثالث، إذ اكتسحوا ميسان العراقية، وحاولوا القضاء على تدمر السورية، من دون أن ينجحوا في ذلك.قضى توسّع الإمبراطورية الفارسية الساسانية على الطريق التجاري العالمي الأقدم، الذي كان يربط الهند بالمتوسط عبر الخليج والعراق والمشرق، وهو ما أجبر الرومان على إقامة طريق بديل، فراحت سفنهم تدخل دلتا النيل وتبحر منها شرقا عبر سلسلة من الأقنية والبحيرات الاصطناعية حتى تصل البحر الأحمر، وكان اسم ذلك الممر المائي "قناة الفراعنة". ثم تبحر السفن جنوبا في البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، وتلتف شرقا في خليج عدن باتجاه الهند. وساعد في ازدهار هذا الطريق اكتشاف الملّاحين، الأرجح من عرب الخليج، الرياح الموسمية فوق المحيط الهندي، وهي رياح تهب شرقا 6 أشهر، ثم تنعكس غربا في الأشهر الستة التالية.سمحت الرياح الموسمية للسفن التجارية الابتعاد عن السواحل والإبحار في عرض المحيط، فارتبطت الحركة التجارية بمواقيت الرياح، وهذه الدورة التي يشير إليها كتاب المسلمين برحلتي الشتاء والصيف.أدرك الساسانيون أنهم قتلوا بيضة تجارة الخليج التي كانت تبيض ذهبا، فلم يعد لديهم ما يقرصنوه أو يفرضون الأتاوات عليه، فحاولوا التوسع نحو البحر الأحمر عن طريقين: عن طريق البحر، حيث كانت قواتهم تنزل في حضرموت، وعن طريق البر، حيث كانت تنطلق من جنوب العراق وتسلك حفر الباطن، وهو مسار لنهر قديم جاف كان ينبع من المدينة المنوّرة ويسير أكثر من ألف كيلومتر باتجاه الشمال الشرقي حيث يصب في الكويت. كانت قوات الفرس تفترق عن المجرى الجاف وتتجه نحو مكة، ومنها تنعطف جنوبا نحو اليمن، وكان هدف الإيرانيين السيطرة على عدن وباب المندب لاحتكار حركة التجارة.لكن الإمبراطورية المسيحية، في روما أولا وبعدها في قسطنطينية، جنّدت قبائل في القرن الإفريقي ونشرت المسيحية بينها وتحالفت معها، فقامت مملكة أكسوم في إثيوبيا، وسادت البحر الأحمر، واحتلت اليمن، التي تحولت إلى ساحة قتال ومنافسة بين الفرس والحبشة المدعومين من الغرب. وانفصل أحد جنرالات الحبشة، واسمه أبرهة المعروف بالأشرم عن المملكة الأم، ونصّب نفسه ملكا لليمن. وفي سباقه مع الفرس، قاد أبرهة جيشه وهو يعتلي فيلا في المقدمة، وحاول احتلال مكّة في العام 570، ويسمي التقليد الإسلامي ذاك العام بعام الفيل، وهو عام مولد محمد بن عبدالله، رسول المسلمين.إيران تنشر الميليشيات والحرب والقتل زالت ممالك ساسان الفارسية وأبرهة وأكسوم الحبشية، واندثرت ثقافة الفرس ولغتهم ودينهم، وبقي العرب وتجارتهم، التي ازدهرت وتوسعت وانتشرت، ونشرت معها لغة العرب ودينهم وثقافتهم، التي يتبناها الفرس حتى يومنا هذا.وفي يومنا هذا، فيما يمضي العرب في توسيع تجاراتهم وانخراطهم في الاقتصاد العالمي، يواصل الفرس هوسهم بالقوة والعسكر والصواريخ والدرونات المتفجرة، ويقومون بما في وسعهم لاحتكار طرق التجارة، إن عبر العراق وسوريا ولبنان، أو عبر الخليج، أو عبر مضيق باب المندب. وكان وزير خارجية إيران السابق جواد ظريف نشر مقالة في نيويورك تايمز في 2015 أطلق فيها تسمية "الخليج الفارسي الأوسع" على بحر العرب وخليجه، والبحر الأحمر وخليج عدن، حتى قناة السويس وشرق المتوسط. لكن ما الذي تنشره إيران في هذا "الخليج الفارسي الأوسع؟" تنشر الميليشيات والصواريخ والحرب والقتل والفقر والتخلّف.أما ما ينشره العرب في بحرهم وخليجهم حتى ضفاف المتوسط وحوض النيل، فهم ينشرون الشركات والأعمال والاستثمارات والحياة الأفضل، لهم ولباقي البشر.التاريخ لا يعيد نفسه، لكن عادات الشعوب تعيش أجيالا وأجيالا، وعلى قول المثل الأميركي، "العادات القديمة تموت بصعوبة".