في السنوات الأخيرة، تصاعد الحديث عن سباقٍ محمومٍ في مجالات الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين، ثم تحوّل هذا النقاش إلى ضجة عارمة، مع دخول ديب سيك (DeepSeek) وسيط دردشة الذكاء الاصطناعي الصيني إلى الصورة، وبقدرات ومميزات تنافس تشات جي بي تي، بل وتتفوق عليه في المجانية والكلفة البسيطة التي لم تتعدّ حسب تصريح مطوريه الصينيين 5 ملايين دولار، مقابل المليارات التي أنفقها الأميركيون.لا يمكن فصل هذا الموضوع عن ملفات ثقيلة تتعلق بالتفوّق التكنولوجي والأمن السيبراني، فضلًا عن الأبعاد الإستراتيجية والجيوسياسية للمواجهة الأميركية الصينية في هذا المضمار، التي بدأت بمحاصرة شركة هواوي، والسعي لمنع (أو الاستحواذ) على تطبيق تيك توك الذي غزا الولايات المتحدة (والعالم) بسرعة فائقة، مظهرا قدرته على تحدي السيطرة الأميركية على خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية والتغلغل في المجتمع الأميركي نفسه (فلنتذكر مثلا دور تيك توك في فضح الكثير من الممارسات الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة)، وبطبيعة الحال، لن يكون ديب سيك سوى محطة، في مسلسل هذه المواجهة المستمرة. فهل يمكن القول إن القلق الأميركي في محله؟ كيف حققت الصين هذه القفزة الهائلة؟ شهدت الصين خلال العقد الأخير نموًّا ملحوظًا في الاستثمارات الموجهة نحو الذكاء الاصطناعي، سواءً عبر الشركات الخاصة أو الجهات الحكومية، فظهرت شركات عملاقة حقّقت إنجازات بارزة في تقنيات التعرّف على الملامح، والرؤية الحاسوبية، والترجمة الآلية الفورية. وما كان لهذه الإنجازات أن تتحقق لولا دعمٍ حكومي قوي، مع وضع هدف محدد، يسعى إلى جعل الصين رائدة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول منتصف هذا القرن. أضف إلى ذلك أن الصين تتمتع بميزة خاصة في هذا المجال، وهي توفر قاعدة بيانات هائلة من المستخدمين، ما دمنا نتحدث عن عدد سكان يفوق المليار نسمة، يستعملون خدمات وتطبيقات رقمية صينية بشكل يومي (ما دامت الصين قد اختارت الاستقلال بتطبيقاتها عن الهيمنة الأميركية مع (فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها). تمثل هذه البيانات الضخمة كنزًا للشركات المعتمدة على تقنيات التدريب أو التعلم العميق، التي تتطلّب تحليل كميات هائلة من المعلومات للوصول إلى أفضل النتائج، وبالتالي تطوير خوارزميات دقيقة ومتقدّمة. أبعاد القلق الأميركي المتزايد تجاه المنافسة الصينية: لا يمكن حصر القلق الأميركي في مستوى واحد، فبداية، هناك البُعد الأمني والعسكري. فمع تزايد قدرات الصين التقنية، يتضاعف احتمال استخدام التقنيات المتطورة لأغراضٍ استخباراتية أو عسكرية. على سبيل المثال، يمكن لتقنيات التعرّف على الوجوه وتحليل البيانات الضخمة أن تُستخدم في عمليات المراقبة الموسّعة، أو في جمع معلومات تفصيلية عن أفراد وجماعات في مختلف أنحاء العالم. على صعيد آخر، يثير الذكاء الاصطناعي الصيني مخاوف بشأن القرصنة الإلكترونية، لأن التقدم الصيني في مجال تحليل البيانات قد يمنحها القدرة على اختراق الشبكات الأميركية بسهولة أكبر، أو تطوير أدوات تكنولوجية متفوّقة يصعب على الأميركيين مواجهتها. لا ننسى أيضا الجانب الاقتصادي والإستراتيجي، لأن هذا الصعود السريع قد ينتهي بسيطرة صينية تامة على الأسواق التكنولوجية العالمية في مستقبل منظور خصوصًا مع القدرة الصينية المألوفة على ابتكار تقنيات أرخص وأفضل، ما سيضرب مصالح الشركات الأميركية ويضرب الهيمنة التكنولوجية الأميركية الحالية في مقتل. هل لهذا التنافس الأميركي الصيني تداعيات عالمية؟ لا يعكس تصاعد الحديث عن "خطر" الذكاء الاصطناعي الصيني إلا واقعًا أكثر تعقيدًا، يتجاوز التفسير التقليدي لوجود صراع تقني أو تنافس تجاري. فالمسألة هنا تمتد لتشمل قيم الحرية الشخصية وحماية البيانات وأمن المعلومات، وصولًا بالتالي إلى موازين القوى الدولية. الأساس أن التقدم التكنولوجي يوفر فرصًا كبيرة للنموّ والابتكار، لكنه تحول بمرور الوقت إلى أداة للسيطرة والاحتكار ومضاعفة وحصر الثروات في أيادي مجموعة صغيرة من المتنفذين، بما يقود إلى شكوك حقيقية حول طرق استخدامه، بما قد يؤدّي إلى تهديداتٍ للأمن القومي والإقليمي. من هنا، تأتي الدعوات الطبيعية إلى ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية دولية تنظّم تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه، بحيث تضمن استخدامًا مسؤولًا للتقنيات الناشئة، وتحُدّ من المخاوف الأمنية والسياسية. كما تزداد أهمية الحوار بين بكين وواشنطن لتجنّب انزلاق السباق التكنولوجي إلى مواجهةٍ شاملة، يمكن أن تترك بصماتٍ سلبية على مستقبل الابتكار العلمي في كلا البلدين وفي العالم أجمع، لكن أملا كهذا يصطدم بجملة خلافات عميقة بين البلدين، أساسها سياسي بدرجة أولى (المعضلة التايوانية والسيطرة على منطقة جنوب شرق آسيا)، وما الشق التكنولوجي إلا أحد أوجهها.