نشرت مجلة ايكونوميست البريطانية المرموقة، مقالًا مطوّلًا حول السباق الاقتصاديّ الذي تنخرط فيه الدول النامية، لتصبح ثرية ولتصبح قوى اقتصادية عظمى. من هذه الدول، الهند والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. كل واحدة من هذه الدول، بحسب المجلة، أظهرت نموًا كبيرًا في الأعوام القليلة الماضية، وما زالت تسعى إلى المزيد.هذه الدول اليوم حلت محلّ المجموعة التي كانت معروفة بـ"بريكس"، والتي كانت تتألف من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، فمجموعة بريكس، التي قدمت نموًا اقتصاديًا باهرًا في العقد الأول من هذا القرن، انحسرت اليوم، باستثناء الهند. الصين، خصوصًا، شكلت خيبة آمال كبيرة، إذ هي حاولت تقديم نموذجها، "إجماع بكين"، الذي تلعب فيه الدولة دورًا في إدارة اقتصاد السوق، بديلًا عن النموذج الغربيّ المعروف بـ"إجماع واشنطن"، والذي تطلق فيه الحكومات أيدي اقتصاد السوق من دون أيّ تدخل منها، مهما كان.الإمارات ترعى منافسة اقتصادية كاملةفي الإمارات، تتدخل الدولة بشكل كثيف لتأمين الجو الموائم للمستثمرين المحلّيين والأجانب، وللسماح لاقتصاد السوق بإدارة نفسه بنفسه. صحيح أنّ الحكومة الإماراتية تستثمر أحيانًا في هذا المشروع أو تلك الشركة، إلا أنّ الدولة الإماراتية لا تملك شركات كبرى محتكرة، مثل الصين، التي تحتكر شركاتها العملاقة السوق، وتسيطر عليه.ترعى الإمارات منافسة اقتصادية كاملة، فلا تسمح أن يؤثر أيّ نفوذ سياسيّ في اقتصاد السوق الإماراتية، على عكس الصين، حيث الأفضلية هي دائمًا لشركات الدولة، حتى لو لم تقدم هذه الشركات تنافسية كاملة. على أنّ حرية اقتصاد السوق لا تعني أنّ الإمارات تترك الأمور على غاربها حتى تقارب الفوضى، كما في الولايات المتحدة، حيث أدت التظاهرات من أجل وقف عنف الشرطة ضدّ السود، إلى شلل الشرطة، ترافق ذلك مع شطب بعض القوانين ضدّ السرقات.هكذا في أقل من 5 سنوات تحولت مدن أميركية مثل واشنطن وسان فرنسيسكو إلى أدغال بلا قانون، يصعب التجوال داخلها، ويمكن لأيّ مواطن الدخول إلى أيّ سوبرماركت وأخذ ما يريده من دون أن يسدّد ثمنه، ومن دون أن يكون للشرطة القدرة على ردعه. كذلك انتشرت حالات توقيف السيارات وإنزال أصحابها منها وسرقتها، ناهيك عن تفشّي الحروب بين العصابات المسلحة ومقتل مدنيّين، أحيانًا عن طريق الخطأ يصدف وجودهم في ساحة معركة عابرة بين العصابات.الإمارات جنّة ضريبية للمستثمرينومع تدهور الأوضاع الأمنية في واشنطن وسان فرنسيسكو وغيرها، أحجم المستثمرون عن دخولها، فصار يمكن رؤية واجهات المحالّ وهي معلقة بألواح الخشب، وكأن البلاد في حالة طوارئ، وانخفض سعر الإيجارات وأسعار العقارات، وضمر عدد سكان المدينة، فتقلصت عائدات الحكومة المحلية، ما أضعف الشرطة المشلولة أكثر فأكثر.هكذا هو اقتصاد المدن والدول، كالدراجة الهوائية، إن توقفت عن النمو، وقعت ووقع صاحبها معها. المشاكل التي تعانيها بعض المدن والقطاعات الأميركية، كذلك انفلات الدين العام من عقاله، كلها أزمات تشي بأنّ الولايات المتحدة ليست في موقع لتصدر التعليمات للحكومات الأخرى حول كيفية إدارة نفسها واقتصاداتها بالطريقة الأنسب، في وقت ثبت أن لا نموذج واحدًا ينطبق على كل دول العالم، وأنّ على كل دولة تقيّم ما لديها، وما يمكنها تقديمه، للمنافسة في السوق العالمية، ولتحصيل ما يمكنها من أرباح. النموّ الاقتصاديّ في الدول لم يعد يجري بحسب وصفة يُصدرها صندوق النقد أو البنك الدوليّين. صارت كل حكومة تستنبط ما عليها القيام به، مستندة إلى نقاط قوتها، متفادية الخوض في قطاعات لا قدرة لديها على الفوز فيها، وهذا ما قامت به الإمارات، وبنجاح كبير.تشير ايكونوميست إلى استثمارات الإمارات الناجحة في قطاع الألمنيوم، والذكاء الاصطناعي، ومشروع إقامة وكالة تبغي الربح وتحمل السياح في زيارات إلى الفضاء. كذلك تشير "ايكونوميست" إلى البنية التحتية التي أقامتها الإمارات، وتحويل نفسها إلى جنّة ضريبية للمستثمرين، وهو ما جعلها من أكثر الدول جاذبية للشركات الدولية والأعمال، طالما أنّ بنيتها التحتية المطلوبة لهذا النوع من الأعمال هي الأحسن في العالم.النجاح الإماراتي يعتمد على السمعة ويبدو أنّ أفضل ما قامت به الحكومة الإماراتية، هو عدم تبنّي الحمائية الاقتصادية، التي غالبًا ما تقترن بهوس "الاكتفاء الذاتي" والصناعة المحلية، وهو ما يبدو أنها سياسة تنتهجها الهند، مع توقعات المجلة البريطانية أن لا توفّق دلهي، على المدى الطويل، إذ إنّ الحمائية يمكنها إطلاق قطاعات، ولكن ما أن تنهي الدولة سياسة الحماية، حتى تجد هذه القطاعات المحلية نفسها غير قادرة على المنافسة دوليًا، فتنهار أمام منافسين أرشق منها من حول العالم.الإمارات قطعت شوطًا كبيرًا في تطوّرها الاقتصادي، وسعيها للاستقلال قدر الإمكان عن عائداتها النفطية، وجزء كبير من النجاح الإماراتيّ يعتمد على السّمعة. هنا في واشنطن، كان ولدي المراهق يسير هو و5 من أصدقائه، ولا واحد منهم من أبناء العرب. سأل أحدهم عن وجهة السياحة المفضلة لكل منهم، فأجابوا جميعهم، بالتتالي، دبي، ثم وصلوا إلى ولدي، فقالوا لها إنهم يحسدونه لأنه زارها، ويزورها مرارًا.عندما أخبرني ولدي بالقصة، استغرقت في محاولة معرفة كيف توصل هؤلاء المراهقون في ولاية ميرلاند الأميركية، إلى نتيجة مفادها أنّ دبي هي قبلة السياحة لهم وللعالم. دردشت أنا وبعض آبائهم، وتشكلت عندي قناعة بأنّ جزءًا كبيرًا من نجاح الدول في الاستقطاب، مبني على السّمعة، وهذه عملية تراكمية عبر السنوات ولا يمكن شراؤها في أسابيع أو أشهر، بل هي تتطلب سنوات وعقود.الإمارات محظوظة بأنها، في سباق الأمم إلى الثراء - الذي تتحدث عنه "ايكونوميست" - تجد هذه الدول الخليجية نفسها في موقع ممتاز للمنافسة ومواصلة الصعود. لا شيء مضمونًا، لكنّ العمل الدؤوب أوصلها إلى هنا، وهو وحده الذي سيضمن لها مراكز متقدمة في العقد أو الاثنين المقبلين.