إذا كان البحث العلمي الأكاديمي في الثقافة الأمازيغية يتوزع على مجالات وأوراش تخصصية عديدة، تتراوح بين اللغة والبيداغوجيا والآداب والفنون والتاريخ والأركيولوجيا والمعلوميات، وتمتدّ إلى مجالات السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم السياسة والترجمة وغيرها من العلوم ذات الصلة بالظواهر السوسيوثقافية عموما، فإن الحاجة إلى منظور إستراتيجي شمولي متجدّد يوجه مجمل الأبحاث وينتظمها في رؤية تأخذ بعين الاعتبار السياق وحاجات المرحلة، تظل حاجة ملحّة مع نهاية كل دورة من دورات التطور في هذا المجال.ويمكن القول إن الدراسات والأبحاث الأمازيغية اليوم قد خطت في العشر سنوات الأخيرة خطوات حاسمة في طريق المأسسة والتدقيق المنهجي والضبط المفاهيمي، وانتقلت بشكل ملحوظ من مجال البحث الجامعي المحدود في إطار شعب غير متخصصة في الأمازيغية، ومن الإطار التطوعي الفردي و"النضالي"، إلى مستوى العمل المؤسساتي الذي يتمّ في إطار مشروع الدولة الرامي إلى مأسسة الأمازيغية وإدراجها في كل القطاعات الحيوية، وهو ما جعل هذه الدراسات والأبحاث تتخذ طابعا أكثر وظيفية وحيوية من ذي قبل، وتعمل وفق برنامج للأولويات يأخذ بعين الاعتبار قبل كل شيء المطالب القطاعية الملحّة.ولعل ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور خلال سنة 2011، والذي توّج تراكمات كمية ونوعية في مجال العمل الأمازيغي امتدت لعقود عديدة، يعدّ بمثابة المؤشر لنهاية مرحلة وبداية أخرى، مما يستوجب على العاملين في مجال البحث والدراسات الأمازيغية أن يقوموا بالحصيلة المطلوبة كماً وكيفاً، وأن يعملوا على توضيح الرؤى في ما يخصّ الاختيارات الكبرى المتبناة، سواء منها ذات الصلة بالأهداف البعيدة والقريبة، أو بمناهج البحث والدراسة ومجالاتهما، من دون إغفال رصد العوائق والصعوبات وتوصيفها واقتراح البدائل الممكنة.الثقافية الأمازيغيةلقد انطلقت الدراسات والأبحاث الأمازيغية من داخل الجامعة المغربية منذ أربعة عقود خلت، وكان ذلك بشكل هامشي خجول ومتعثر، كما ظهرت بموازاة ذلك محاولات للتنقيب في عدد من الظواهر الثقافية الأمازيغية من خارج الجامعة مرتبطة بدينامية المجتمع المدني الذي لعب دور الدينامو المحرك للوعي الأمازيغي الحديث، غير أن إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، أطلق دينامية أخرى جديدة توفر الغطاء الرسمي للبحث في مجال اللغة والثقافة الأمازيغيتين، عبر إدراجه في إطار السياسات العمومية للدولة، وتعتمد عمل الفرق المتخصصة، كما تربط جهود البحث بمسلسل المأسسة الذي انطلق مع القرار المعلن في خطاب أجدير سنة 2001، مما يستوجب التفكير في علاقة التراكم الجديد الذي حققه المعهد المذكور بالجهود والتوجهات السابقة، وفي مدى وجود التنسيق المطلوب بين كل الفاعلين في مجال الأبحاث والدراسات الأمازيغية بالمغرب، سواء داخل الجامعة أم في المعهد الملكي أم خارجهما.إن الرصيد الذي حققه البحث العلمي في الأمازيغية حتى الآن هو رصيد مشرف إذا علمنا أنه تم ـ في طابعه المؤسساتي ـ في العشرين سنة الأخيرة فقط، وبجهود وتضحيات عظيمة، خاصة وأنّ التصور الإستراتيجي العام الذي يؤطر دينامية البحث للمرحلة الحالية ترمي إلى الاستجابة لحاجات المجتمع والمؤسسات خاصة بعد ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور 2011، وصدور القانون التنظيمي الذي يحدد مراحل وكيفيات تفعيل ذلك الطابع الرسمي، مما يجعل الرهانات الجديدة للبحث تتجه نحو تقوية الحصيلة المعرفية المكتسبة، واكتشاف المزيد من أسرار الثقافة واللغة الأمازيغيتين، مع إنارة المراحل التاريخية التي ظل مسكوتا عنها أو طالها صمت المؤرخون لأسباب كثيرة، خاصة منها مراحل التاريخ القديم المتعلق بالحضارات ما قبل الإسلام.ومن الأوراش الكبرى كذلك لهذه الدراسات والأبحاث الأمازيغية البتّ في العوائق والصعوبات التي تعترض البحث والتقصي والإنتاج العلمي سواء منها الصعوبات المنهجية والتقنية أو المؤسساتية والإدارية.ولا يمكن تنسيق البحث في مجالات متنافرة ومختلفة في موضوعاتها ومناهجها من دون أن يتوفر لدى العاملين في هذا الورش الكبير تصور توليفي يعمل على خلق الانسجام المطلوب وتفادي التنافر بين مختلف الفاعلين المتدخلين في هذا المجال.ولعل توفير هذه المرتكزات والعوامل الضرورية سيمكن لا شك من جعل مستقبل الدراسات العلمية في مجال اللغة والثقافة الأمازيغيتين مستقبلا زاخرا بالمعارف المفيدة والفاعلة في مسلسل مأسسة الأمازيغية، وترسيخ الوعي الوطني بالانتماء إلى المغرب المتعدد الذي يعمل على رعاية تنوعه الخلاق، في إطار مسلسل الدمقرطة الشامل الذي انتقل بالدولة الحديثة في المغرب من نموذج الدولة المركزية المبنية على هوية اختزالية وإقصائية، إلى الدولة الديمقراطية الناهضة المنفتحة على جهاتها ومكوناتها الثقافية والهوياتية.