بين الفينة والأخرى يعود النقاش حول العلمانية بالمغرب، تارة بسبب وقائع تتعلق بالحريات الفردية أو بموضوع المساواة بين الجنسين، أو لوجود الأقليات الدينية، أو أعمال إبداعية فنية تتجاوز حدود الرقابة الاجتماعية أو السلطوية، كما يعود هذا النقاش أحيانا بمناسبات دينية مثل رمضان وعيد الأضحى، مما يطرح في كل مرة موضوع الدين ومكانته في الدولة والمجتمع."نحن علمانيون، إذ لا إكراه في الدين"لكن ما حدث قبل أيام وأثار زوبعة نقاش عاصف لم تخمد جدوته حتى الآن، هو أمر نادر الوقوع، بل هو أمر غير مسبوق، ففي معرض إجابة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي على سؤال لأحد البرلمانيين، تحدث عن لقاء له مع وزير الداخلية الفرنسي قائلا إن هذا الأخير خاطبه بقوله:" أنتم المغاربة تنزعجون من العلمانية"، فكان رد الوزير المغربي المشرف على قطاع الشأن الديني: "بالعكس فنحن علمانيون، إذ لا إكراه في الدين"، هذا التصريح الذي تم تحت قبة البرلمان سرعان ما أدى إلى هجوم عنيف على الوزير المغربي من طرف مكونات الحركة الإسلامية المغربية التي نعتت تصريحه بأنه "خطير" و"ضرب لثوابت البلد" مذكرين إياه بوجود مؤسسة دينية تقود البلد وهي "إمارة المؤمنين"، باعتبار أن ملك المغرب له سلطة دينية بوصفه "أمير المؤمنين" كما ينص على ذلك الفصل 41 من الدستور المغربي.وكما يحدث عادة عندما يتم الركوب على قضية ما بهدف تصفية الحسابات السياسية، فقد تشعب الموضوع وتم تناوله بطرق شتى، كما طرح الإعلاميون السؤال عن مدى علاقة تصريح وزير الأوقاف بنهج الدولة وتوجهها. ولأن الذي قاد الحملة ضد الوزير هو حزب "العدالة والتنمية الإخواني" من خلال رئيسه عبد الإله بنكيران (رئيس حكومة سابق 2012 ـ 2016)، فقد استعملت في الحملة كل الأسلحة المعتادة في مثل هذه المواقف كالتشهير والتحريض وكيل الاتهامات، كما انفلت العنف من عقاله في شبكات التواصل الاجتماعي التي لا يؤطرها أي قانون واضح حتى الآن، بينما وجد التيار العلماني الحداثي بالمغرب الفرصة لكي يبسط من جديد مفهوم العلمانية ويعمد إلى توضيح أبعاده ومضامينه وقيمه ضدا على التيار المحافظ الذي يتخلص من العلمانية بجرة قلم قائلا إنها "إلحاد" و"عداء للدين".وإذا كان وزير الأوقاف معروفا بتحفظه الشديد بسبب الموقع الذي يحتله في الحكومة، والمجال الذي يشرف عليه، إلا أنه هذه المرة وعلى غير عادته خرج عن صمته ليكتب رسالة عتاب لرئيس حزب العدالة والتنمية، مشيرا فيها إلى أن حزب العدالة والتنمية "حزب عصري" اشتغل خلال رئاسته للحكومة "بقوانين وضعية مقتبسة من الغرب العلماني". "أمير جميع المؤمنين باختلاف دياناتهم"ويعكس هذا النقاش 4 أمور على قدر كبير من الأهمية: أولا أنه يكشف عن المسكوت عنه لدى السياسيين المغاربة الذين يتجنبون استعمال كلمة "علمانية" لما فيها من حساسية، حيث يفضلون استعمال كلمتي "الحداثة والديمقراطية" التي لا تقوم عندهم إلا عبر علمنة القوانين والمؤسسات. ثانيا أن هذا النقاش أوضح أدوار ووظائف مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث اعتبرها الإسلاميون مؤسسة لضبط المجتمع باستعمال الدين واعتبارها مصدرا للتشريع وأساس "البيعة" للملك، بينما رأى فيها العلمانيون مؤسسة تقود التحديث ومسلسل العلمنة عبر اعتماد السلطة الدينية للملك لإنجاز خطوات جريئة نحو مدنية النصوص القانونية، دون أن يؤدي ذلك إلى إذكاء المواجهة بين التيارات الاجتماعية المختلفة وخصوصا منها الحداثية والمحافظة، وقد تبين هذا الدور لإمارة المؤمنين في مناسبات عديدة قام فيها الملك بالتحكيم بين التيارين لتعديل مدونة الأسرة (الأحوال الشخصية) مثلا، مما يمكن الدولة من القيام بإصلاحات عميقة للمواد القانونية التي ترتبط بنصوص دينية، من منظور اجتهادي متقدم أحيانا عما يقول به الفقهاء والمحافظون.هذا دون أن ننسى على مستوى ثالث بأن الملك محمد السادس سبق له أن قام بنفسه بتعريف معنى إمارة المؤمنين في خطاب رسمي ألقاه أمام بابا الفاتيكان خلال زيارته للمغرب، عندما قال إنه ليس أمير المسلمين فقط بل "أمير جميع المؤمنين باختلاف دياناتهم".ومن أهم القضايا التي أبرزها هذا النقاش أيضا هو عدم تحمس الإسلاميين للآيات القرآنية التي تنص على حرية الاعتقاد كالتي استعملها وزير الأوقاف، مما يدل على أن المرامي السياسية تتحكم بشكل واضح في المواقف من المضامين الدينية للنصوص الصريحة نفسها.غير أن أهم ما عكسه هذا الخلاف على المستوى الرابع هو تناول مسلسل العلمنة الذي عرفته الدولة المغربية منذ 1912، عندما دخلت البلاد في فترة الحماية الفرنسية، وهو المسلسل الذي لم يتوقف بخروج المستعمر، بل استمر في ظل الدولة المستقلة إلى اليوم عبر تحديث القوانين والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية والأسرية ونظام القيم، بجانب تحديث البنيات التحتية المادية وعصرنتها، مما يظهر بأن عبارة وزير الأوقاف تتجاوز في الواقع مجرد القول بحرية التدين.