اعتُبرت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي بدأت في 24 فبراير 2022 أهم حدث سياسي وعسكري في القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن مقارنته بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي كانت نتائجها أقل كثيراً من نتائج ما يدور الآن في أوكرانيا بشكل خاص وأوروبا والعالم بشكل عام.يمكن تفسير أهمية هذه العملية العسكرية، من خلال رؤيتنا لانقسام العالم إلى ثلاثة محاور:1- الأول الذي يتمثل في العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا.2- الثاني المُتمثل في الاتحاد الروسي.3- أما الثالث فهو يضم الدول التي ما زالت تحافظ على العلاقات مع هذين المحورين، في حين أن هناك احتمالية لأن تنجذب إحدى دول المحور الثالث لجانب الاتحاد الروسي، وهنا نتحدث بالطبع عن الصين.فبمرور أكثر من 10 أشهر على بدء هذه العملية، تزداد أهمية ما يحدث في أوكرانيا، من خلال زيادة عملية الاستقطاب الدولي، سواء من خلال زيادة مستويات الدعم العسكري والمالي الغربي لأوكرانيا أو من خلال محاولات موسكو ربط مصالحها الاقتصادية والعسكرية مع بكين بشكل استراتيجي، الأمر الذي يمكن معه انتقال الصين للطرف الروسي، مما يجعلنا ننتظر نتائج أكثر راديكالية على الموقف الدولي العام في عام 2023.خلفية تاريخية حديثةأصبح خطاب فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، ومطالبته لأول مرة وبشكل رسمي بتغيير النظام العالمي القائم والذي يعتمد على القيادة الأحادية الأميركية، بداية لتغيير، سريعاً ما لاحظناه. وهذا التغيير على الساحة الدولية، كان أول تدخل عسكري روسي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي – الاجتياح الروسي لجورجيا أغسطس 2008. فروسيا المُروضة منذ تسعينيات القرن الماضي باتت تُطالب بشكل عسكري باحترام حدودها الجغرافية. التغير السريع الآخر في هيكل قيادة العالم، كان الموقف الروسي الداعم للسلطة السورية خلال أحداث ما سُمي بالربيع العربي، الأمر الذي انتهى بالتدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، وهنا نقف أمام واقع جاهزية موسكو للدفاع عن ليس فقط حدودها الجغرافية، لكن كذلك حدودها الأمنية.إلا أن أهم ما مررنا به خلال هذه الفترة كانت مسألة ضم شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول إلى الاتحاد الروسي، وكان الأساس الأيديولوجي لذلك هو مبدأ "إعادة توحيد الشعب الروسي". أما أخيراً ببداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، استخدم الكرملين موضوع صراع الحضارات والصدام مع الغرب الجماعي وحتمية الهروب إلى الأمام وملاقاة الغرب في أوكرانيا قبل أن يأتوا إلى الأراضي الروسية نفسها وتفكيكها.وإذا نظرنا لترتيب هذه الأحداث من حيث الأساس الأيديولوجي، نجد أن ردود الفعل الروسية بدأت بالدفاع عن الحدود الجغرافية ثم الحدود الأمنية، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ العالم الروسي وأخيراً الحديث بشكل مباشر عن الصدام مع الغرب الجماعي.2023 عام المواجهات الحقيقية بعد أن نجحت روسيا في الاختبارات الأربعة السابقة على مدار 14 سنة (منذ 2008 وحتى الآن) سيكون أمامها عام 2023 لمحاولة إنهاء الصراع الأوكراني بأي شكل، لأن موسكو والغرب والجميع يعلم بأن استمرار هذه الحرب بهذه الكيفية، لا تعني سوى إضعاف روسيا. وهذه الحالة يعلمها جيداً من هم في الكرملين، لذلك بشكل شبه دائم، يؤكد الرئيس الروسي بتصريحات مفادُها عدم السماح بتكرار سيناريو تفكك الاتحاد السوفيتي بعد حرب أفغانستان التي استمرت لقرابة 10 أعوام. الحرب كما نعلم، هي مجموعة من الإجراءات والتحركات التي تستهدف إخضاع الطرف الآخر، دون أن تقضي عليه نهائياً. وبما أن روسيا لم تنجح خلال هذه الشهور القليلة في إخضاع السلطة الأوكرانية لها، فهذه الحرب ستستمر لفترة غير قصيرة، خصوصاً أن كييف تستقبل مساعدات عسكرية ومالية وسياسية غير مسبوقة من الغرب.ومع استمرار هذه الحرب وتكاليفها الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى حزم العقوبات الغربية الضخمة على موسكو، سنكون بالفعل أمام احتماليات الضعف الروسي الداخلي، الأمر الذي سيؤثر على مواقفها خارجياً سواء في مناطق آسيا الوسطى والقوقاز أو البلقان أو الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى أو القطب الشمالي. فهذه المناطق جميعها يتواجد بها قضايا يمكن أن تنفجر في أي لحظة.وبسبب كثرة هذه الملفات، سيكون أمام موسكو مواجهات حقيقية في كل هذه المناطق، ولكن نجاحها فقط سيعتمد على قدرتها على تأجيل بعض المواجهات من أجل حل الصراع مع الغرب. ومن أجل عملية الحل هذه، سيكون على موسكو تأكيد شراكاتها العسكرية مع بيلاروسيا والتي تمثل المسرح الأهم في حالة خروج أمور الصدام مع الغرب عن السيطرة، وهذا الاتجاه نراه في تعدد اللقاءات بين بوتين ولوكاشينكو وإرسال قوات عسكرية إلى الأراضي البيلاروسية. والاتجاه الآخر وهذا هو الأهم، لأنه في الحقيقة سيؤكد على وجود عالم جديد أساسه الغرب الجماعي والمحور الصيني-الروسي مع استمرار المحور الذي يضم الدول التي تملك علاقات مع المحورين الآخرين.فالصين هي الرقم الأهم في هذا الصراع، وتريد موسكو فعلياً أن تُشكل حلفا عسكريا قبل أن يكون اقتصاديا معها، وذلك باستغلال الأوضاع في آسيا الوسطى وكذلك في الشرق الأقصى وإقناع الصين بضرورة هذا الحلف. فعمليات التغيير المستمر في العقيدة العسكرية اليابانية وتنشيط الحلف الرباعي "كواد" بين واشنطن، أستراليا، الهند واليابان وكذلك انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مع تكثيف نفوذ كل من بريطانيا، الولايات المتحدة وتركيا في آسيا الوسطى يجعل من عملية إقناع بكين بالدخول في اتفاقية دفاع مشترك سهلة بعض الشيء. ويبدو لنا أن الإعلان عن هذا الحلف يمكن أن يكون في بداية ربيع 2023، وهو موعد زيارة الرئيس الصيني لموسكو. فبعد زيارة الأمين العام لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف إلى الصين في سبتمبر الماضي، وكذلك زيارة نائب مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف إلى الصين ولقائه مع الرئيس الصيني وختام العام الماضي بلقاء عبر الفيديو بين الرئيسي الصيني والروسي، ارتفعت فرص خروج هذا الحلف للنور.إن إعلان موسكو وبكين عن هذا الحلف العسكري، سيعني وجود مواجهة خطيرة، وهذه المواجهة ستحدّد الشكل الحقيقي للنظام العالمي الجديد، ومع توارد أنباء غير مؤكدة عن موجة ثانية من التعبئة الروسية والتي طبقا لهذه المعلومات سيصل العدد المطلوب فيها إلى نحو 500 ألف فرد. وستكون الخطوات التالية بعد الإعلان عن هذا الحلف هي محاولة احتلال كامل الأراضي الأوكرانية مع استخدام الوسائل التدميرية المهولة (لا نقصد هنا الأسلحة النووية بل استخدام صاروخ سارمات على سبيل المثال) لإنهاء هذه الحرب وتجميد الصراع مع الغرب. وإن مسألة إقدام روسيا على هذه الخطوات (التحالف العسكري مع الصين ومحاولة النصر التام في أوكرانيا) سيؤدي بنا الى سيناريوهين فقط:1- الأول هو التوصل لحل ما وسط بين الغرب وروسيا يكون من خلال عملية ضامنة لحفظ ماء وجه الطرفين.2- الثاني هو المواجهة العسكرية الكبرى والتي لا يمكن استبعادها أبداً مع وصول الطرف الروسي الى مرحلة اليأس من الحرب التقليدية ووجود خطر حقيقي يهدد كيان الاتحاد الروسي.