تصدّر ثلاثي الصحة والتعليم والنقل نقاشات مجلس نواب الشعب مع أعضاء الحكومة بمناسبة النظر في أبواب قانون المالية لسنة 2025. وقد كشفت هذه النقاشات فعلا عن حقل متشابك من الإشكالات التي أحاطت عبر العقود بعناوين فخر الدولة الاجتماعية منذ تأسيسها الأول إبان استقلال البلاد في خمسينيات القرن الماضي.ماذا حصل لتلك المدارس التي بناها جيل التأسيس على امتداد المدن والقرى؟ وماذا لحق بتلك المستشفيات العمومية حتى تتحول إلى ظل باهت ضئيل لتلك المنشآت المجهزة ذات الخدمات العلاجية الناجعة؟ وما الذي أصاب أسطول الحافلات والقطارات التي اهترأ نسيجها وأصابت محركاتها أمراض الشيخوخة؟بدء رحلة الإصلاحات في تونس لا نبالغ إن قلنا إن الصحة والتعليم والنقل هي عناوين قد تحولت بفعل فشل المراحل من احتفائية إلى بكائية في الشارع التونسي. لكن المهم في هذه الحالات ليس رثاء الماضي بل الفعل في الحاضر، وهذا ما انطلق فعلا في أولى خطوات تجسيم البناء الجديد لتونس. فإن قلنا إن شعار ما بعد انتخابات 6 أكتوبر 2024 هو البناء والتشييد فإن ما يتفاعل الآن داخل ساحة العمل الحكومي والتشريعي بدأ يشير إلى ورشة تفكير وعمل على إحيائية متدرجة لمرافق الخدمة العامة. بدءاً بقطاع الصحة العمومية الذي شهد في الأعوام الأخيرة أكبر موجة لهجرة الكفاءات الطبية وشبه الطبية نتيجة ما اعتراه من ضعف في البنية الأساسية والتجهيزات وترد لظروف العمل ونقص في المواد العلاجية، تبدو الأمور سائرة نحو إصلاحات هيكلية وإحداثات جديدة بعد أن تم تبديد الصعوبات الإجرائية خصوصا من ناحية إعداد الترتيبات الأولية لإطلاق مشروع مدينة الأغالبة الصحية في القيروان، وأشغال تهيئة المستشفى الجهوي بقفصة إلى جانب تعهد وزارة الصحة بتعزيز البنية الأساسية للمستشفيات العمومية وتحفيز أطباء الاختصاص على العمل بالمناطق الريفية والبحث عن حلول مالية عاجلة لمشكل التزود بالأدوية الحياتية من الخارج، هذا إضافة إلى العمل على رقمنة الخدمات الإدارية بقطاع الصحة لتسهيل المعاملات وتفادي طوابير الانتظار.أما قطاع التربية والتعليم فإن الاتجاه سائر إلى إعادة النظر في الخارطة المدرسية برمتها على مستوى البنى والمناهج والمضامين، وقد تم في هذا الصدد إصدار المرسوم المتعلق بإحداث المجلس الأعلى للتربية كهيئة تضم الكفاءات العليا التي يعهد إليها بالتفكير وإبداء الرأي في كل المسارات والتشريعات الخاصة بالتعليم العام والتعليم العالي والتكوين المهني بحيث تندمج الهياكل الثلاثة برنامجيا وعمليا لخلق ترابط بين مسارات المتعلم وصولا إلى تأهيله للحياة العملية وفق المعايير العصرية والاحتياجات الفعلية للاقتصاد. وهذه الخطوة هي فعلا منعرج إيجابي للخروج من طور الحلول الترميمية إلى طور المعالجة الجذرية للإشكالات المتراكمة، خصوصا إذا ترافق معها عمل على تجديد التصور المعماري والتجهيزاتي للمؤسسات التعليمية بما يتماشى مع تطورات العصر ومتغيراته.تأسيس الدولة الوطنية الحديثةأما قطاع النقل فلا يخفى أن مزيجًا من قلة الإمكانيات المالية ومخلفات التراخي والإهمال في عهد المنظومة السابقة يجعل من الحديث عن التعافي الكامل ضربًا من الخيال. غير أن ما يجري حاليا هو مرحلة مهمة للإصلاح الأولي بالقيام بتعديلات جديدة لأسطول من الحافلات وإقرار برامج لتعزيز قطاع النقل الحديدي بفتح خطوط جديدة للقطارات بين المدن هذا إلى جانب ترتيب الانطلاق في توسعة مطار تونس قرطاج بمساحة تستوعب 8 ملايين مسافر ليبلغ العدد الجملي لاستيعاب المطار 18مليون مسافر.الرحلة نحو الإصلاح بدأت لكن الدرب طويل والاعتراف بذلك هو أول الطرق نحو إنجاز واقعي عقلاني يستبعد بيع الأوهام ويرسخ الفعل على الأرض بما هو متاح من إمكانيات. وفي الواقع أن ما يحصل من عمل دؤوب ليس في باب بناء مختلف للدولة الاجتماعية لأنها وجدت أصلاً في عقل ومنجز جيل تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، بل هو في باب انبعاث جديد لثوابتها في عصر جديد وفي سياق حرب تحرير وطنية جديدة مهمتها إذابة ما تراكم من جليد وبناء مستقبل لا مكان فيه للحيف والتهميش.