شهدت مدينة سمرقند انعقاد أول قمة رسمية بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، بمشاركة قادة كازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، إلى جانب مسؤولي الاتحاد الأوروبي، القمة تأتي في إطار مساعي بروكسل لتوسيع نفوذها في الفضاء ما بعد السوفياتي، في سياق التنافس الإستراتيجي مع الصين وروسيا على الموارد، والبنى التحتية، ومحاور النقل في منطقة آسيا الوسطى."جمهورية شمال قبرص التركية"البيان الختامي للقمة تضمّن إشارة مباشرة إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي رقم 541 (1983) و550 (1984)، والتي تدين إعلان "جمهورية شمال قبرص التركية" وتدعو إلى عدم الاعتراف بها، حيث انضمت دول آسيا الوسطى الأربع رسمياً إلى هذا الموقف، وهو ما يعكس توجهاً دبلوماسياً منسجماً مع الموقف الأوروبي والدولي تجاه النزاع القبرصي.تزامن هذا الموقف مع سلسلة خطوات دبلوماسية ملموسة اتخذتها بعض دول آسيا الوسطى باتجاه قبرص اليونانية، كازاخستان وقعت اتفاقاً لتبادل السفراء مع نيقوسيا في يناير، وأوزبكستان اعتمدت سفيرها في إيطاليا ممثلاً لها لدى قبرص في ديسمبر 2024، وتركمانستان حذت حذوها في مارس 2025، هذا الحراك الدبلوماسي يعزز من التقارب بين هذه الدول والاتحاد الأوروبي، ويشير إلى تقليص هامش المناورة السياسي لتركيا في المنطقة.من جانبها، تركيا اعتبرت هذا الموقف من الدول الأربعة الناطقة بالتركية نقضاً عن التضامن التركي المشترك، وخرقاً ضمنياً للرؤية الإستراتيجية لمشروع "منظمة الدول التركية"، التي تأسست لتكون إطاراً للتكامل السياسي والاقتصادي والثقافي بين الدول ذات الانتماء اللغوي التركي، ويشكل هذا الموقف تبايناً واضحاً مع الهدف التركي غير المعلن بتكريس الاعتراف السياسي بجمهورية شمال قبرص التركية، التي تأسست بدعم عسكري مباشر من أنقرة في أعقاب تدخلها العسكري عام 1974.جدير بالذكر أن السياق التاريخي للمسألة يعود إلى مطلع التسعينيات، حين حاولت تركيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، توطيد علاقاتها مع الجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. ففي عام 1992، دعا الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال إلى قمة عقدت في أنقرة، جمعت رؤساء كازاخستان، وأوزبكستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان، وأذربيجان، بهدف تشكيل إطار للتعاون الإقليمي، لكن المشروع تعثر بعد وفاة أوزال، ونتيجة لتحفظ طشقند بقيادة إسلام كريموف على الدور التركي، ما أدى إلى تجميد التنسيق الإقليمي لسنوات.وفي عام 2009، بادر الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف إلى تأسيس "مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية"، بمشاركة تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان، ولاحقاً انضمت أوزبكستان كعضو كامل في 2019، وتركمانستان كمراقب في 2021، فقد شهدت هذه المرحلة تزايد النفوذ التركي في المنطقة، خصوصا في ظل قيادة الرئيس رجب طيب إردوغان وتنامي سياسات التوسع الإقليمي عبر أدوات القوة الناعمة والعسكرية.وبعد قمة 2022 في سمرقند، نظمت تركيا مناورات عسكرية مشتركة مع أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وشمال قبرص التركية، بينما امتنعت أوزبكستان عن المشاركة، كما تكثف التعاون العسكري بين أنقرة ودول آسيا الوسطى، حيث استلمت قيرغيزستان طائرات مسيّرة من طراز "بيرقدار" في 2022، ووقّعت كازاخستان اتفاقاً لإنتاج طائرات "ANKA" التركية بدون طيار، كما تسلّمت تركمانستان معدات عسكرية تركية، في حين خضع ضباط عسكريون من مختلف دول آسيا الوسطى لتدريب منتظم في المؤسسات التركية.العالم التركيهذا التوسع في الشراكة العسكرية تم تفسيره على أنه جزء من إستراتيجية تركية أوسع لتشكيل تحالف دفاعي تركي يمتد عبر آسيا الوسطى والجنوب القوقازي، تحت مظلة "العالم التركي" و"جيش طوران"، وفق ما تروّج له بعض الأوساط القومية في أنقرة، مثل حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي.غير أن تبني دول آسيا الوسطى لموقف يتعارض صراحة مع الموقف التركي من قضية قبرص يشير إلى حسابات إستراتيجية مغايرة. هذا التحول يعكس إدراك هذه الدول لمخاطر التبعية السياسية لتركيا ضمن مشروعها الطوراني، خاصة في ظل التوتر القائم بين أنقرة وموسكو، إضافة إلى التنافس بين الصين وتركيا في مشاريع البنية التحتية والنقل الإقليمي، مثل "مبادرة الحزام والطريق".من زاوية استخباراتية، يلاحظ أن هندسة مشروع "العالم التركي" لم تكن تركية خالصة، إذ نُسبت فكرة "توران الكبرى" إلى ريتشارد مور، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6)، وسفير المملكة المتحدة السابق لدى تركيا، مما يشير إلى تداخل مصالح غربية في المشروع، وربما توظيف أنقرة كأداة للحد من النفوذ الروسي في آسيا الوسطى.وبناءً عليه، فإن اصطفاف كازاخستان، وقيرغيزستان، زأوزبكستان، وتركمانستان إلى جانب الاتحاد الأوروبي في المسألة القبرصية، وتأكيدها على عدم الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، يمثل إعادة تموضع جيوسياسية تتجاوز مجرد الاختلاف التكتيكي مع أنقرة، إنه يعكس رغبة هذه الدول في تبني سياسة خارجية متعددة الأقطاب، قائمة على توازن المصالح بين تركيا، الاتحاد الأوروبي، روسيا، والصين، دون الانخراط في أي محور أحادي قد يهدد استقلال القرار السياسي أو الهوية الوطنية لتلك الجمهوريات.بهذا المعنى، لا يُمكن اعتبار ما حدث في سمرقند تطوراً رمزياً فقط، بل هو مؤشر على بداية تشكل توازن جديد في آسيا الوسطى، يقوم على استقلالية القرار، وتعدد المحاور، وتقليص دور النفوذ التركي ضمن الإقليم الذي لطالما سعت أنقرة إلى اعتباره امتداداً إستراتيجياً لها. (المشهد)