ربما يحدث هذا لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر، أن تتحول كرة القدم إلى موضوع نقاش عمومي نوعيّ، ينتقل من الرياضة إلى إشكاليات السياسة والتنمية، وهو نقاش يستحق منا وقفة لإبراز أهم أبعاده التي بلا شك سيكون لها ما بعدها.فنجاح الفريق الوطني المغربي لكرة القدم في الوصول إلى المربع الذهبي للفرق الأقوى في منافسات كأس العالم، علاوة على ما أثاره من مشاعر الوطنية الصادقة والاعتزاز بالانتماء إلى الأمة المغربية، فقد طرح أيضا سؤالا هاما حول الأسباب الحقيقية لهذا النجاح، وحول ما إذا كان ممكنا نقله إلى مجالات أخرى، كالاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، حتى يستطيع المغرب توفير نهضة متوازنة ومتكاملة الأطراف والعناصر ، تجعل منه نموذجا في القارة الإفريقية.لقد أجمع المحللون والمراقبون على أن نجاح المغرب في الكرة لم يكن بمحض الصدفة، بل كان لثلاثة أسباب رئيسية: 1- توفير جميع المعايير الدولية والإمكانيات اللوجستية والمادية لبناء فريق قوي، تم اختيار أعضائه بناء على معيار الكفاءة الرياضية والمردودية الواقعية، والرغبة الذاتية في تمثيل المغرب دوليا. 2- اعتماد مدرب وطني مغربي، ووضع الثقة فيه وفي قدراته على خلق الانسجام المطلوب بين لاعبين جاؤوا من بلدان مختلفة، حيث يحترفون داخل أندية أجنبية، وتحويل مهاراتهم الفردية إلى جهد جماعي منظّم، عبر خلق اللحام الضروري بين اللاعبين. ولأن المدرب المغربي يتقن 4 لغات على الأقل، فقد استطاع التواصل مع جميع اللاعبين بألسنتهم، من أجل بناء فريق متماسك. وهو ما لم يستطعه سلفه، الذي كان غارقا في خلافات لا حد لها مع اللاعبين. 3- الروح الوطنية وفورة الحماسة في الدفاع عن القميص المغربي، وهو ما نجح المدرب الوطني في زرعه بشكل موفق في اللاعبين. 4- استغلال حرارة المشاعر الأسرية، واستحضار أمهات اللاعبين بما لهن من رمزية ثقافية شعبية في التقاليد المغربية، مما كان له أكبر الأثر على نفسية اللاعبين حيث زاد من إصرارهم على اللعب بقتالية عالية.لقد تحوّلت كل هذه العوامل إلى موضوع نقاش في منتديات الحوار، وتشعّب التبادل حول بعض القيّم الأصيلة التي أعيد لها الاعتبار بوصفها قيما إنسانية قابلة للتوظيف من أجل النجاح والتفوق، وكان ذلك كله في سياق متوتر عرف فيه المغرب صعوبات كبيرة في تخطي تداعيات حرب أوكرانيا، التي زادت من معاناة الفئات الهشّة في البلاد بسبب الارتفاع المهول في أسعار المحروقات والمواد الأساسية. وعلى الرغم من مشاعر السعادة والنشوة التي خلقتها الانتصارات الكروية، فإن ذلك لم يمنع من إثارة سؤال مركزي على الشكل التالي: إذا كانت البلدان المتفوقة في كرة القدم، هي على العموم بلدان متفوقة أيضا اقتصاديا وتقنيا وعسكريا، فكيف يمكن لبلد يعاني من مشاكل كثيرة تعوقه عن النهضة المأمولة أن يتفوّق في الكرة؟ ولماذا لا تمتد عوامل النجاح الرياضي إلى كل قطاعات الدولة الأخرى؟ ولقد سمح هذا الانعطاف في النقاش بإثارة 3 قضايا كبرى، هي من صميم اهتمام القوى المدنية والسياسية في المغرب: ـ قضية التوازي المطلوب بين تطور البنيات التحتية المادية، وتطور الوعي المواطن لدى الفئات العريضة من المجتمع. إذ أدى التفاوت الكبير بين المجالين إلى تطور ملموس في العمارة والمنشآت الكبرى في مقابل تدهور واضح في وعي الناس وسلوكهم البعيد عن قيم المواطنة.ـ قضية اعتماد معيار الكفاءة قبل أي معيار أو اعتبار آخر، ومحاربة أساليب الزبونية والمحسوبية والروابط العائلية التي تحول دون بروز المواهب المتفوقة، وتمنع من وجود الشخص المناسب في المكان المناسب. كما أنها تكرس الكثير من مظاهر الفساد العام الذي يجهض المشاريع التنموية ويؤثر سلبا على إنتاجية المجتمع.ـ قضية الشعور الوطني الذي صار يبدو للكثيرين كما لو أنه مجرد مشاعر مفتعلة أضعفتها الأزمات وأنهكها التوتر بين الدولة والمجتمع، بين النخب والفئات الاجتماعية الواسعة، حيث ظهر بالملموس بأن هذا الشعور الوطني قابل لأن يتحوّل إلى طاقة إيجابية تستطيع تحقيق المعجزات.إن هذا الانتقال من المنافسات الرياضية إلى طرح أسئلة جوهرية تتعلق بالإصلاح السياسي والاقتصادي، في أفق تنمية ناجحة وذات مردودية، لهو انتقال يدّل بوضوح على مقدار حيوية ودينامية المجتمع المغربي، كما أنه يشير إلى مدى الترابط العضوي الموجود بين أبعاد الديمقراطية وعناصرها وأسسها المختلفة، ويجعل من "الدرس الكروي"، كما يسميه المغاربة اليوم، درسا للمستقبل.