الدبلوماسيّ الأميركيّ الراحل هنري كيسنجر تفوَّق على الكاتب المسرحيّ جول فيرن، عميد الديبلوماسية الأميركية زار 213 دولة، فيما الروائيّ الفرنسيّ جول فيرن كتب إحدى روايته تحت عنوان "حول العالم في 80 يومًا"."أمر قاتل أن تكون صديقًا لأميركا"المغزى من هذه المقارنة أنّ كيسنجر الذي كان يتربع على عرش "المعرفة الديبلوماسية" في الولايات المتحدة، من خلال سعة اطّلاعه وكثافة رحلاته، وصل إلى اقتناع يقول: "إنه لأمر خطير أن تكون عدوًا لأميركا، ولكنه أمر قاتل أن تكون صديقًا لها". حاورَ عتاة أعداء واشنطن وخصومها، لكنه وصل إلى اقتناع أنّ "فائض الجبروت" لدى بلاده يجعل التقرب منها قتَّالًا. قبل كيسنجر، قال ونستون تشرشل إنّ "الأميركيّين يفعلون الشيء الصحيح بعد اختبار كل البدائل الأخرى". ويبدو أنّ ما توصل إليه تشرشل هو السياسة التي تسير عليها الولايات المتحدة، وما كان ينطبق منذ أربعينيات القرن الماضي، أي زمن تشرشل، يبدو أنه ينطبق اليوم، بمعنى أنّ واشنطن حوَّلت السياسة والديبلوماسية إلى "حقل تجارب"، وهذا ما يبدو واضحًا، سواء في سياستها في اليمن، وتحديدًا تجاه "الحوثيّين"، أو تجاه إيران. منذ دخلت الولايات المتحدة إلى المنطقة، وتحديدًا إلى دول الخليج، وهي لا تتوانى عن زرع مكوِّناتها، سواء جمعيات، أو مراكز ثقافية أو حتى رجال، يقول أحد الإعلاميّين الغربيّين الذي غطَّى أحداث الشرق الأوسط منذ عقود عدة: " إذا وضعت خارطة الشرق الأوسط أمامك، وأمسكت دبّوسًا وغرزته في أيّ مكان على الخريطة، فسوف يصيب رأس شخص من المخابرات الأميركية المزروعين في كل مكان"." سياسة الوجهين" الأميركية مع دول الخليجظهر التباين الأميركيّ حيال المنطقة خصوصًا في عهد الرئيس جو بايدن، في مطلع ولايته ، نُقِل عن أحد المقربين منه أنه لا يفكر في سحب القوات الأميركية من المنطقة، لكنه يفكر في إنهاء الحروب. لم يتحقق شيء مما قاله، فهو يفكِّر في سحب القوات الأميركية، أما مسألة التفكير في إنهاء الحرب، فيبدو أنها بعيدة المنال بالنسبة إلى إدارته.بلبلة أخرى في ولاية الرئيس بايدن، هي مسألة مبيعات الأسلحة، إدارة بايدن كانت تريد خفض مبيعات الأسلحة، بعكس ما كانت عليه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، لو تحقق هذا الأمر، لكانت إدارة بايدن غرقت في انكماش اقتصاديّ غير مسبوق. ومسألة خفض بيع الأسلحة لا تؤثر سلبًا فقط على دول الخليج، بل أيضًا على حلفاء واشنطن الآسيويّين كاليابان وغيرها.خطة إدارة بايدن، هي بمثابة تحوَّل كلّي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، لأنها تتضمن إعادة نظر بالدعم العسكريّ لدول الخليج، ولا يقتصر الأمر على هذا الحد، بل يقابله ويعاكسه، استئناف الحوار مع إيران، بهذه الحال تبدو المنطقة أمام مشهدين عنوانهما الثواب والعقاب: مشهد واشنطن كأنها في حال ثواب مع إيران، ومشهد واشنطن في حال عقاب مع دول الخليج، وإلّا كيف يمكن تفسير هذا التهاون الأميركيّ مع إيران وأذرعها، وخصوصًا اليمن، في مقابل "سياسة الوجهين" مع دول الخليج حيال اليمن؟"صديقك مَن صَدَقَك"ما لم تُعطِه واشنطن اهتمامًا، أنّ "الديبلوماسية الغامضة " التي تنتهجها، فتحت الباب واسعًا للدخول الصينيّ بقوة إلى المنطقة، وللتناغم بين هذا " التنّين التجاري" وبعض دول المنطقة، هذا المعطى سيُرغِم واشنطن على إعادة النظر في تخبّطها وغموضها، خصوصًا أنّ هذين الغموض والتخبط يُقابَلان بجدّية صينية. لم يأتِ تراجع الثقة بين واشنطن وحلفائها من فراغ، مَن لا يتذكر ضعف ردة الفعل الأميركية حيال الضربات التي تعرضت لها مصافي أرامكو، والذي تبين أنّ وراءها الحوثيّين، ما دفع دول الخليج إلى رفع سقف الكلام حيال التهاون الأميركيّ غير المبرر من وجهة النظر الخليجية. يقول خبراء في السياسة الأميركية خارج الولايات المتحدة، إنّ واشنطن تحاول دائمًا أن تمسك بخيوط اللعبة كافة مع كل الأطراف المتناقضين، وتعمل في الخفاء بمقدار ما تعمل في العلن، تتعامل مع الحكومات والأنظمة الشرعية الصديقة، بمقدار ما تتعامل سرًا مع جماعات الإسلام السياسيّ التي يمارس بعضها الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط. وهذه السياسة التي تنتهجها واشنطن ترى فيها أنّ من سيصل إلى السلطة في الشرق الأوسط سوف يحتاج إليها، وسيكون مضطرًا إلى التعامل معها. ألم تحصل هذه التجربة مع "الإخوان"؟ ولاحقًا مع "جبهة النّصرة"؟ انطلاقًا من كل هذه المعطيات، ألا يجدر بواشنطن أن تعيد النظر بسياستها الخارجية وخصوصًا في منطقة الخليج؟ ألا تعرف واشنطن المثل القائل: "صديقك مَن صَدَقَك"؟