قبل سنوات قليلة، خلت تواترت القراءات التي رشحت تونس للدخول في نفق اقتصادي مظلم قد يحملها إلى نادي باريس حيث تتداول في أمرها القوى التي تتولى شؤون الدول المفلسة، أو إلى الإذعان صاغرة إلى الوصفة الحصرية لصندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المواد الأساسية وبيع المؤسسات العمومية وما إلى ذلك من شروط ذات كلفة اجتماعية باهظة. ولم يدر بخلد أكبر المتفائلين أن تكشف الأحداث والأرقام من 2023 إلى 2024 عن معالجة دقيقة ومتأنية ضربت بالسيناريوهات الكارثية عرض الحائط، بل وسطرت الملامح الأولية للإفلات تدريجيا من مخلفات التنمية الرثة لعشرية الانحطاط التي لم تترك مؤشرا ماليا ولا طاقيا ولا فلاحيا ولا تجاريا إلا ونزلت به إلى أدنى المستويات.الالتزامات المالية أين تونس اليوم؟وما الذي تغير؟ في الحقيقة لا يمكن القول واقعيا بأن البلد غادر نهائيا منطقة المخاطر المالية والاقتصادية التي فرضت على عموم بلدان جنوب المتوسط بسبب مخلفات جائحة كورونا وتداعيات اشتعال الحرب الروسية الأكرانية على سلاسل الإمداد الغذائي والطاقي. لكن لغة الأرقام وحدها تكشف عن قدرة واضحة على الصمود وإدارة الأزمات ورفع المؤشرات بتدرج نسبي لكنه تصاعدي وواعد على المدى المتوسط والطويل.وهذا ما لم يغب مثلا عن وكالة موديز للتصنيف الائتماني التي رفعت نسبيا من الترقيم السيادي للاقتصاد التونسي رغم تواصل تنصيصها على المخاطر المالية، ذلك أن قدرة البلد على الإيفاء بالتزاماته المالية الدولية قائمة ومدعومة بتحسن عديد الأرقام منها تقلص عجز الميزان التجاري إلى مستوى 2% في هذه الفترة بعد أن كان في الفترة الممتدة من 2011 إلى 2022 في مستوى 8% سنويا. والحديث عن الالتزامات المالية يحيلنا قطعا إلى سداد المديونية الخارجية الذي شمل كامل أقساط 2024 وما يقارب 40% من خدمة الدين الخارجي لسنة 2025. وحسب تصريح للخبير الاقتصادي بسام النيفر أدلى به لوكالة الأنباء الرسمية التونسية، فإن سنة 2026 ستشهد تسديد 700 مليون يورو من الدين الخارجي وبذلك يغلق ملف الديون لدى السوق المالية ولن تبقى سوى الديون المترتبة عن الاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف على غرار تلك التي أبرمت مع الاتحاد الأوروبي والبنك الإفريقي للتنمية. وبهذا ستكون سنة 2027 سنة الانفراج الفعلي التي ستتيح مجالات أرحب للنهوض بالاستثمار. وربما نقرأ ما يدعم مثل هذه المقاربات المتفائلة في تقييمات جهات مالية دولية وازنة كالبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية الذي توقع زيادة في النمو الاقتصادي التونسي في أفق سنة 2026 استنادا إلى قراءة تحليلية لتحسن المؤشرات ومن ضمنها متوسط التضخم الذي انحصر في حدود 7% سنة 2024 بعد أن كان في حدود 9.5% سنة 2023، وكذلك استقرار احتياطي النقد الأجنبي بما يغطي 3.7 أشهر توريد. وخلص هذا التقييم إلى أن الانتعاش اقتصاديا بدأ فعلا انطلاقا من سنة 2024 بما يعزز آفاقا واعدة للنمو رغم المخاطر التي يمكن أن تتأتى من تجدد النزاعات على نطاق دولي، أو من الصدمات المناخية وهذه مخاطر تظل قائمة في مختلف بلدان العالم وفي الدول النامية على وجه الخصوص.تفادي الانهيار الماليوبالنتيجة، لا بد من الإقرار أن عملا كبيرا تم القيام به في مستوى الحوكمة قد قاد تونس إلى تفادي الانهيار المالي والاقتصادي الكارثي الذي كان محدقا بعد الحصيلة الهزيلة لعشرية الدمار. وخارج نبرة الرضا المطلق عن الذات التي لا تقود إلا إلى تسويق الوهم، لا بد من التأكيد أن ما تحقق لم يفض إلى إحساس مجتمعي واسع بالتحسن الموجود نظرا لتواصل الصعويات المعيشية قياسا إلى مستوى الدخل الفردي للتونسيين، وهذا عائد إلى التركيز المكثف والأولوي على استغلال الموارد المتوفرة في خلاص الديون الخارجية والداخلية. لكن بالنظر إلى السياسة العامة والإستراتيجية التنموية لمسار 25 يوليو فإن قرار التعويل على الذات واستنهاض القطاعات الإنتاجية الواعدة المتصلة بالأمن الغذائي بالنسبة للزراعة، أو تلك المتصلة برفع انتاج الفسفاط الذي تشهد أسعاره ارتفاعا في السوق العالمية، أو تلك التي تتعلق بمجال تطوير العمل على مجال الطاقات البديلة والمتجددة، كل ذلك سيثمر على المدى المتوسط والبعيد أرضية مراكمة للإنتاج والثروة تشكل مقدمة حقيقية للإقلاع وتثبيت منظومة الاقتصاد السيادي. أن الذي تغير فعلا في تونس هو عقل السلطة الذي صار يفكر في ما هو أبعد وأعمق من السطح الليبرالي المعولم الذي يسجن مفهوم التنمية داخل نمط محدد بمعايير خلقت أصلا لخدمة حيتان السوق العالمية. فالأمم والشعوب تستطيع أن تعيش بكرامة باعتماد مواردها الوطنية إذا ما أفلتت من عوامل التبعية واللحاق. وهذا أمر لا يتحقق منطقيا بين يوم وليلة بل هو نتاج مكابدة وصبر وملاءمة ضرورية بين انفتاح تستوجبه الشراكة مع الفضاء الدولي، واستقلالية قرار تستوجبها سيادة كل بلد على ثرواته وأراضيه. ووسط هذه المعادلة تحديدا تعمل تونس على الارتقاء بوضعها من دون انكفاء على الذات من ناحية، ومن دون رضوخ إلى المشروطية من ناحية ثانية. بين ما خلفته سنوات القحط بعنوان "ربيع عربي" لم يغنم منه البلد سوى فترة من التصحر التنموي والفوضى الشاملة، وبين ما يراكمه مسار إعادة البناء والإصلاح الجوهري من منجز متدرج بخطوات مدروسة وواقعية، بين هذا وذاك فارق شاسع يدركه بسهولة من تمعن في القيمة التاريخية للطفرة النوعية التي حصلت في مستوى المشهد التونسي. وهذا هو المهم، قبل تحقيق الأهم.