منذ هجوم 7 أكتوبر، تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من التوتر والعنف غير المسبوق، وهي الأخطر منذ سنوات عديدة. فعملية "طوفان الأقصى" العنيفة التي قامت بها حركة "حماس"، والرد الإسرائيليّ الأعنف عليها من خلال عملية "السيوف الحديدية"، أدخلا المنطقة في دوامة عنف خطيرة امتدت من مشرقها إلى مغربها. ولا نبالغ إذا قلنا اليوم إنه في حال استمرار هذا التصعيد، فإنّ الأمور قد تنفلت بشكل جدّي وتخرج عن السيطرة، ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب واسعة ستكون نتائجها كارثية على الجميع داخل المنطقة وخارجها على حدٍ سواء.إسرائيل مصممة على إكمال الحربالكثيرون كانوا يعتقدون أنّ هذه الحروب في المنطقة ستخف تدريجيًا، وأنّ التوترات ستنحسر بشكل طبيعيّ مع مرور الوقت، لتفسح المجال لعملية سلام مستدامة. لكن للأسف، اليوم وبعد أكثر من عام على بدء هذا الصراع المتجدد في الشرق الأوسط، يبدو الواقع أكثر تعقيدًا، وأبعد ما يكون عن أيّ حلول قريبة أو مسارات منطقية نحو السلام المنشود الذي يريده جزء كبير من شعوب هذه المنطقة.فالحكومة الإسرائيلية المتطرفة برئاسة بنيامين نتانياهو لا تبدو لديها رؤية واضحة لإنهاء الحملة العسكرية الحالية، وهي مقتنعة ومصممة على صمّ الآذان والذهاب بعيدًا لتحقيق نصر عسكريّ كاسح ينهي هذه الحالة. في المقابل، تواصل إيران الرهان على الحرب البعيدة عنها، وذلك من خلال دعم مفتوح لأذرعها في المنطقة. واللافت أنه على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الميليشيات المدعومة من إيران، سواء في فلسطين أو في لبنان، فإنّ طهران مستمرة ومصممة على تبني استراتيجية "الحرب بالوكالة" مهما كانت كلفتها.المشكلة اليوم، وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، هي أن لا أحد قادر على الضغط لا على إسرائيل ولا على إيران لإيقاف التصعيد ووضع حد لهذا الجنون. فروسيا غارقة في حربها المنهكة مع أوكرانيا، والصين تركز على توسيع منطقة نفوذها التاريخية في بحر الصين الجنوبي، أما الولايات المتحدة فتقف عند مفترق طرق، منتظرة نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الحاسمة بعد قرابة الأسبوعين من اليوم، على أمل أن تعود مع الإدارة الجديدة بشكل قوي إلى المشهد الدولي. وفي ظل هذا الواقع المرير، يحاول الأوروبيون، وعلى الرغم من قلة حيلتهم، البحث عن بصيص أمل قد يؤدي إلى "طريق السلام" في الشرق الأوسط.وفي هذا الإطار، أكد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أنّ وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط يمثل أولوية قصوى، وأنّ مقتل رئيس المكتب السياسيّ لحركة "حماس" يحيى السنوار على يد القوات الإسرائيلية، قد يزيد فرص تحقيقه. هذا فيما كانت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني أكثر وضوحًا عندما قالت إنّ اقتراح وقف إطلاق النار، الذي طرحته بلادها مع الجهات الفاعلة الأخرى في المجتمع الدولي، يمكن أن يكون حجر الزاوية لطريق السلام في المنطقة. أما المستشار الألمانيّ أولاف شولتز، فقد اعتبر أنّ وقف إطلاق النار هو شرط أساسيّ لمنع توسع الصراع في المنطقة.وقف إطلاق النار في غزة ولبنان ضرورةوعليه، يبدو واضحًا أنّ الجميع بات مقتنعًا اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، بأنّ وقف إطلاق النار في المنطقة هو المفتاح الأساسيّ لعملية السلام في الشرق الأوسط. ومن حيث المبدأ، تبدو هذه المقاربة منطقية، على الأقل لناحية وقف هذا الجنون بشكل موقت. ولكنّ السؤال الأهم يبقى: هل يؤدي فعلًا وقف إطلاق النار إلى سلام مستدام في المنطقة؟الأكيد أنّ وقف إطلاق النار الفوريّ في كامل المنطقة، أي في غزة ولبنان، هو عامل مهم وأساسيّ لتهيئة الظروف نحو وقف مسلسل الحروب المتجددة في هذا الشرق. لكنه، في الوقت نفسه، لا يبدو كافيًا على الإطلاق لبناء السلام الدائم والتام المفقود في هذه المنطقة. فطريق السلام في الشرق الأوسط بحاجة إلى مصارحة جدية، كما أنه بحاجة ماسة للنظر إلى المشكلة الحقيقية بجرأة ومن دون مواربة، بالإضافة إلى معالجة جذورها بشجاعة وواقعية كبيرتين.لذا، من المستحيل اليوم أن تنجح أيّ مبادرة لبناء سلام مستدام وحقيقي، من دون أن يكون هناك حل عادل وجدّي للقضية الفلسطينية، ومن دون أن يتم التوصل أيضًا لحل رادع لدور إيران السلبيّ في هذه المنطقة. فمهما حققت إسرائيل من انتصارات على الأرض، لا يمكنها التفكير في مستقبل هانئ وسلام دائم مع جيرانها العرب، من دون القبول بالفلسطينيّين وبدولة فلسطينية. كما أنه لا يمكن للدول الكبرى أن تتوقع سلامًا مستدامًا في الشرق الأوسط وإيران تصول وتجول بميليشياتها وصواريخها الباليستية بطول المنطقة وعرضها، وتقوّض أمن جيرانها لمناسبة ومن دون مناسبة، وتهدد الملاحة البحرية وأجواء المنطقة في الوقت والطريقة التي تريد.وبالتالي، على العالم أجمع اليوم، إذا ما أراد فعلًا الذهاب في "طريق السلام" في الشرق الأوسط، أن يأخذ موقفًا حازمًا وشجاعًا وأن يضغط بقوة وعن قناعة على العقبتين الأساسيّتين أمام السلام المستدام والحقيقيّ في هذه المنطقة. فهل تقوم القوى العالمية الكبرى بهذه الخطوة الصعبة والضرورية لإنجاح عملية السلام لمرة واحدة وأخيرة؟ أم تبقي على نهجها الحالي ليستمر معه مسلسل الحروب المتواصلة في هذا الشرق؟