دولة لبنان تلاشت. التلاشي هنا لا يعني شغور موقع رئاسة الجمهورية واقتصار عمل الحكومة على تصريف الأعمال. التلاشي يعني موت الدولة، وتفكك مؤسساتها، وانهيار عملتها، واندثار سيادتها. لم يبق شيء في لبنان إلا هوية ثقافية واجتماعية يشترك فيها اللبنانيون، وأرض يعيشون عليها سويا من دون عقد اجتماعي. كل لبناني يعيش في لبنان اليوم يعيش على مسؤوليته. لا قوانين تحمي الناس، ولا مرافق عامة تقدّم كهرباء أو ماء أو صيانة للبنية التحتية، ولا رقابة على جودة الدواء أو الأغذية. العيون الوحيدة الساهرة في لبنان هي عيون "أمن المقاومة"، أي استخبارات "حزب الله"، وهذه تعتقد نفسها أنها تتصدى للاستخبارات الإسرائيلية، التي تنخر فعليا جسد الحزب وتفجّر مخازن أسلحته بشكل متواصل. ما تراقبه استخبارات "حزب الله" هم اللبنانيين الذين يصرخون ضد الشذوذ الدستوري الذي يمثله استمرار ميليشيا الحزب بموجب "بيان وزاري". طبعا هذه هرطقة دستورية لأن المساواة بين المواطنين التي يكفلها الدستور تحصر استخدام العنف بالدولة، وهو ما يتطلب تعديلا دستوريا يبرّر عمل جيش واستخبارات كاملة خارج سلطة وقرار الجمهورية اللبنانية. لكن زعيم "حزب الله" حسن نصرالله لا يهتم، طالما هو يقدّم نفسه ناطقا باسم اللبنانيين، وطالما هو يفهم في كل الأمور، من الاقتصاد وزراعة العدس على الشرفات إلى القضاء وعمله، والشؤون الإقليمية والدولية وغيرها.أما ما هو أسوأ من تلاشي لبنان فيكمن في استحالة التغيير. استبشر اللبنانيون خيرا في انتخابات "مجلس النواب" الأخيرة في مايو الماضي. هتفوا "ثورة ثورة" و"تغيير تغيير"، وفعلا انخفضت معدلات أصوات الحكّام ما عدا "حزب الله"، حيث لا يجرؤ أي منافس على الترشح ضد الميليشيا في المناطق ذات الغالبية الشيعية في البقاع أو الجنوب بسبب العنف الذي يستخدمه هذا الحزب ضد من يهددون سطوته المطلقة.ثم جاءت النتائج المخيبة. 13 نائبا تغييريا فقط من 128 تم انتخابهم في البرلمان. طبعا هذه نظرة متفائلة إلى النصف الملآن من الكوب. أما النظرة الواقعية، فتظهر إعادة انتخاب 115 نائبا من الطبقة المقيمة في البرلمان منذ عقدين على الأقل، وهي الطبقة نفسها التي تتفرج على البلاد وهي تعاني من كوارث الانهيار الاقتصادي والانفجار في المرفأ، فضلا عن تصدير المخدرات وانتشار الجريمة.والطريف أن معظم القوى اللبنانية في البرلمان ترى نفسها تغييرية، ولا تحاسب نفسها على أخطائها الماضية. مثلا حزب "القوات اللبنانية" ارتكب خطأ قاتلا عندما أنجب سياسة "أوعا خيك"، التي أفضت لانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. وعون الموصوف بـ"وجه النحس"، لا يدخل قصر بعبدا الرئاسي إلا وتنهال المصائب، مثل في حربيه للتحرير والإلغاء في أواخر ثمانينات القرن الماضي، ثم مصائب لبنان المتنوعة بعد انتخابه رئيسا في عام 2016.أما بطريرك الموارنة بشارة الراعي، فأحجية لا إجابات لها. يصدر مواقف حول ضرورة حياد لبنان في الصراع العربي مع إسرائيل، ثم يصمت. الشيء الغريب في أداء الراعي هو إبداء انزعاجه من أن انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان الماروني رياض سلامة في آخر الشهر السابع سيحيل صلاحيات الحاكم بالوكالة إلى نائبه الشيعي. لا يهم الراعي أن الماروني سلامة هو حارس الباب الرسمي لفساد الطبقة السياسية اللبنانية. ما يهمه هو أن يكون الحاكم ماروني المذهب! لم أراهن على التغيير ولا على التغييريين يوما. لبنان ملعون ولا أفق لخروجه من أزماته. لكن الأصدقاء أصرّوا بالقول "أعطِ التغيير فرصة". رحنا نراقب أداء التغييريين. الموارنة منهم يحرصون على اتخاذ مواقف لا تزعج "حزب الله" على أمل الإبقاء على حظوظ انتخابهم لرئاسة الجمهورية، وكذلك يفعل السنّة الذين يحلمون برئاسة الحكومة. أما من تبقى من التغييريين من غير هاتين الطائفتين، فيقدّمون أداء يماثل في سوئه ضحالة نصرالله الفكرية، وتقلبات زعيم "القوات" سمير جعجع السياسية، والمدة الأطول في العالم التي قضاها نبيه بري رئيسا لمجلس النواب. الخلاص في لبنان لا يكون في الشخصيات بل في السياسات. لا يهم من الآدمي ومن الأزعر أو الفاسد بين السياسيين اللبنانيين، التغييريين منهم أو غير التغييريين. ما يهم هو أن تدرك غالبية اللبنانيين أن الدول تدار مثل الشركات، تسعى لتكون تنافسية في اجتذابها رؤوس الأموال الأجنبية والسياحة على أنواعها، الدينية والمدنية والطبية والتعليمية. كما تسعى لتطوير مواردها البشرية حتى تنافس في اقتصاد المعرفة الدولي. في الولايات المتحدة، تذيع وزارة التجارة شهريا تقارير اقتصادية، مثل نسب النمو والبطالة والتضخم، وهي تقارير تتصدر دائما نشرات الأخبار، وعناوين الصحف، وبرامج الحوار التلفزيونية. أحاديث السياسة بين غالبية المواطنين الأميركيين هي عن هذه التقارير وقوة الاقتصاد والضرائب وغيرها. طبعا هناك نميمة سياسية، لكنها على الهامش.أما في لبنان، فتتصدر السياسة النميمة العقيمة، مثل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية لا دور فعلي له ولا نفوذ. كل السياسة في لبنان إضاعة للوقت في بلد يحتاج بشدة إلى نقاش شؤون اقتصاده المنهار يوميا. يحتاج اللبنانيون إلى وضع ما تبقى من الدولة، والدولة الفعلية أي دويلة "حزب الله"، في خدمة الاقتصاد، لا إبقاء الاقتصاد في خدمة الشبكات الريعية للزعامات.حتى يدرك اللبنانيون أن التغيير يبدأ في تغيير عقلية كل منهم، وفهمهم للدولة ودورها وملكيتهم لها وتوقعاتهم منها، فضلا عن إدراكهم أهمية إعلاء السياسات على الزعامات، لن يكون في لبنان تغيير ولا من يحزنون، أو على ما ورد في القرآن الكريم: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".