على مدى نصف قرن، دأبت الصين على تقديم نفسها بصورة القوة الحكيمة، الواثقة من نفسها، الماضية بخطوات ثابتة نحو النمو الاقتصادي، والتفوق الصناعي والعسكري العالمي. بدت الصين في ذروة تفوّقها يوم عصفت بالولايات المتحدة أزمة "الكساد الكبير" نهاية العقد الأول من هذا القرن. وبدا صعود الصين إلى المرتبة الأولى عالميا عصيًا على وقفه، فصارت خوفا حقيقيا وهاجسا عند أميركا، القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 30 عاما، فراح المرشحون للرئاسة الأميركية يتبارون في ما سيفعلونه للتصدي للقوة الصينية.لكن قبل أن تنجح أميركا في وقف الصعود الصيني، تعثرت الصين من تلقاء نفسها لأسباب عديدة، يتصدرها غياب حكم القانون، وسطوة قوة أمراء السياسة على قوى السوق، وثقة الصين الزائدة بقدرة الدولة على تصميم وتوجيه القطاع الخاص، بما في ذلك المؤسسات البحثية والجامعات، ونظام تسلق السلطة الذي يدفع من هم في المناصب المتدنية، إلى إخفاء الواقع وتجميله لنيل الحظوة في أعين أصحاب المناصب الرفيعة.الصين أدركت أنّ الدور الذي لعبته كمصنع العالم قارب نهايته بسبب سياسة الطفل الواحد للعائلة، والتي دفعت البلاد باتجاه الشيخوخة على غرار دول أوروبا، قبل أن تحقق الصين البحبوحة اللازمة لتمويل هذه الشيخوخة. كذلك ساهم ارتقاء المستوى المعيشي للصينيين في رفع سعر اليد العاملة، خصوصا مقارنة بالدول المجاورة مثل فيتنام، التي قلبت ثارها صداقة، بل تحالف، مع الولايات المتحدة، فراحت تنتقل إليها المعامل الأميركية التي كانت تعمل في الصين.انحسار دور الصين كمصنع للعالم دفع بقادتها إلى العمل على الانتقال باقتصادها إلى الخدمات والاستهلاك الداخلي، لكنّ الخدمات تتطلب تفوقا في الموارد البشرية الصينية، وهذا غير متوافر خصوصا أمام الدول التي سبقتها على اقتناص هذا القطاع الدولي، مثل الهند. أما الاستهلاك الداخلي، فلا يمكنه تمويل الاقتصاد الصيني من دون عائدات الصادرات، صناعية كانت أم خدماتية.لتفادي هذه المآزق الاقتصادية، عمدت بكين إلى الحلول التي تفضلها، وهي المعروفة بسياسة "المعول الجاهز" التي تستخدمها الحكومات عادة لتحريك الاقتصادات أثناء فترات الركود، فتنفق الدولة على مشاريع بناء وتحديث وتطوير البنية التحتية، على أمل أن يؤدي ضخ المال الحكومي الى تحريك عجلة الاقتصاد، ثم تعمد إلى التقشف يعد ذلك لخفض الدين والعام. لكنّ الصين تنتهج هذه السياسة منذ عقود، وهو ما جعل بنيتها التحتية أكثر جهوزية وتطورا من المطلوب، فوجدت الصين نفسها بحاجة إلى مشروع بنية تحتية ضخم تنفق عليه وينعش اقتصادها المتباطئ. هكذا وُلِدت فكرة "مشروع الحزام والطريق"، وهي مشروع بنية تحتية يفترض أن يربط مناطق النشاط الاقتصادي في الشرق، عبر مناطقها الغربية الأقل تطورا، بشواطئ الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، مع أنه يمكن لناقلة بضائع بحرية أن تعبر المسافة نفسها في وقت أقصر وتكاليف أقلّ. كذلك أسبغت ماكينة الدعاية الصينية على المشروع المذكور هالة تاريخية مستقاة من أسطورة "طريق الحرير"، وهو طريق تجاري أنجزه غربيون وأطلقوا التسمية عليه قبل أقل من قرنين. رافق مشروع الصين الضخم التقاليد الصينية المعروفة في عالم الأعمال، أي الرشى والفساد، بصورة أقلقت حكومات كثيرة ودفعت عددا منها، خصوصا في الخليج، إلى تفادي الانخراط في المشروع. وزاد في الطين بلّة أنّ القيّمين على المشروع كانوا في غالبيتهم من حزبيي وقادة الحزب الشيوعي الصيني لا المتخصصين الاقتصاديين والهندسيين. هكذا، أقامت الصين سدودا مائية تعاني مشاكل بنيوية، وبنت مطارات في نقاط غير سكانية لا حاجة كبيرة إليها، وكذلك جسورا لا يعبرها كثيرون. كانت الفكرة الأساسية أنّ الطريق الصيني سيفتح أبواب الدول التي سيمر فيها للبضائع الصينية، لكنّ هذه الدول تستورد أصلا بضائع الصين، ومعظم هذه الدول ذات قدرة شرائية منخفضة، باستثناء بعض دول الخليج والعراق وإسرائيل.مع إدراك القيادة الصينية أنّ اللحاق بالولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي صار حلما يصعب مناله، ومع معرفتها بأنّ خياراتها الاقتصادية المتبقية قليلة، ومع علمها أن تضعضعها اقتصاديا يؤدي لاهتزاز في صورة وشرعية حكم حزبها الشيوعي، راحت بكين ترمي مسؤولية تراجع اقتصادها على الغرب، الذي زعمت أنه يغار منها ويسعى لحصارها، مع أنّ هذا غير صحيح لأنّ أكبر الأسواق استيرادا من الصين ما تزال اليوم في أميركا والغرب.ومع التحريض ضد الغرب، صار لا بد من انخراط الصين في سياسة المحاور الدولية، فشاركت حليفها الروسي فلاديمير بوتين في مشروع تكريس بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) كتحالف "الجنوب العالمي" المناوئ للغرب. المشكلة هي أنّ حجم اقتصادات بريكس مجتمعة، بالكاد توازي حجم اقتصاد الولايات المتحدة وحدها، وإن أضفنا المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، تصبح أميركا وحلفاؤها ثلثي اقتصاد العالم. ثم أنّ دول بريكس نفسها ليست كتلة متراصة، فمشاكل الهند مع الصين معروفة، ما يجعل الهند أقرب الى التحالف الغربي منها إلى بكين وموسكو.تحالف دولي آخر اعتقدت الصين أنها يمكنها الركون اليه في التحريض ضد الغرب يضم، إلى روسيا، سوريا، وفنزويلا وكوبا، وكوريا الشمالية. المشكلة هنا هي أنّ حجم اقتصادات هذه الدول مجتمعة (من دون الصين) هو أصغر من اقتصاد هولندا.بكين كانت ارتكبت أخطاء قاتلة في كيفية تعاملها مع جائحة كوفيد. خشي صغار الحزب لفت نظر أولي الأمر، خوفا من تأثير ذلك على ترقيتهم، فانفلت الفيروس وصار وباء. ثم رفضت الصين الركون إلى لقاح غربي لأنّ ذلك يتعارض وصورة العظمة التي تتخيلها لنفسها، فأنتجت لقاحا صينيا لا يعمل. ثم تمسكت الصين بسياسة "صفر إصابات" وإغلاق، فبنى العالم مناعة من دونها، إلى أن تراجعت الصين عن كل هذه السياسات وفتحت اقتصادها بغضّ النظر عن مناعة السكان وأرقام الاصابات. وكان متوقعا أن يشهد الاقتصاد الصيني فورة تلي الانفتاح، لكنّ الفورة لم تأتِ. بقي التضخم الصيني منخفضا، على عكس العالم، وانخفاض التضخم يعني أن النمو الفعلي منخفض، بغض النظر عن الأرقام الرسمية.مع تراجع الصين، وانهيار روسيا، والحرب في أوروبا، وتأرجح باقي دول بريكس، فرّ رأس المال إلى ملجئه الأخير الذي يثق به: الولايات المتحدة. تدفق الأموال على أميركا رفع نسب النمو والتضخم فيها أكثر مما تسعى إليه، فعمدت إلى استخدام كل الكوابح الممكنة للجم التضخم. ما فات الصين هو أنّ النمو الاقتصادي ليس قرارا مركزيا، ولا خطة خمسية يضعها الحزب الشيوعي. النمو الاقتصادي هو ثقة رأس المال العالمي بقوانين الدول التي يلجأ إليها، وبالمنافسة الشريفة في السوق. هذا التفصيل يبدو أنه فات بكين، والغالب أنّ قطار العظمة الاقتصادية فاتها كذلك.(المشهد)