لكل زمان دولة ورجال، ونساء، ووقتنا هذا لم يعد زمان العراق والمشرق ومصر، بل صار زمان الخليج. لم تعد القاهرة تكتب، ولا بيروت تطبع، ولا بغداد تقرأ. صارت أبوظبي تكتب، ودبي تطبع، ورأس الخيمة تقرأ. في متحف لوفر أبوظبي معرض مؤقت، ومشوّق، ومثير للاهتمام، يحمل اسم "حروف من نور"، وهو تتمة للرؤية الإماراتية التي تبحث عمّا هو مشترك بين المعتقدات والأديان والآراء، لتعزيز السلام والحياة في سعادة، بدلا من تكريس الاختلاف والفرقة والتناحر والحروب.شارك في صناعة محتوى المعرض مؤسسات وأخصائيون من دول متعددة، وهو يتناول الديانات التوحيدية الثلاثة — اليهودية والمسيحية والإسلام. يتناول المعرض الشخصيات التاريخية الدينية المشتركة، ويعرض الروايات التي يقدمها كل دين عن كل منهم، كما يقدم مطالعات عن أقدم مخطوطات القرآن، والوجود المسيحي في جزيرة العرب في زمن رسول المسلمين، ووجود اليهود في الإمارات في العصر السابق للحداثة.من أكثر المعروضات المشوّقة شاهدة قبر رجل يهودي تعود للقرن الميلادي السادس عشر، تم العثور عليها في منطقة حصن جلفار في رأس الخيمة، ويُعتقد أن الرجل، الذي يحمل اسم داود بن سليمان، كان واحدا من جالية يهودية كانت تتألف من 150 نفرا في رأس الخيمة، جلّهم من التجّار، والغالب أنه كان من يهود بلاد فارس ممن كانوا يسكنون أيضا مملكة هرمز، التي كانت تقوم على الجزيرة التي تقع في منتصف المضيق الذي يحمل الاسم نفسه.في الروايات التاريخية التي يقدمها مؤرخو "حروف من نور" بعض الثغرات، مثلا في قول إن يهود الجزيرة والخليج جاؤوا من المشرق، والأصح أنهم كانوا يتوزعون في عموم الجزيرة والعراق والمشرق ومصر، وأن ممالكهم — منها يهوذا وإسرائيل — قامت حصريا في المشرق. لكن حتى الرواية التوراتية تقول إن ابراهيم نزح الى كنعان، في المشرق، من العراق. أما يهود الخليج وفارس، فهم غالبا ينحدرون من يهود بابل، وهؤلاء — مجددا حسب الرواية التوراتية — استوطنوا العراق بعدما قام الملك النيوبابلي نبوخذ نصر بغزو مملكتهم وسبيهم.”حروف من نور“ هو عودة الخليج إلى خارطة التاريخ، فتاريخ نشوء الأديان الإبراهيمية الثلاثة، والذي تمت كتابته بشكله الحالي بعد حركة التنقيب التي قادها الأوروبيون بعد غزو نابليون مصر في 1798، انصبت على بلاد الرافدين والمشرق ومصر، وإلى حد ما اليمن، ولكنها استثنت جزيرة العرب والخليج وتونس والمغرب العربي.وللخليج خصوصا تاريخ حافل منذ فجر الحضارة، فجزيرة دلمون، أي البحرين، وردت في نقوش رافدينية كمحطة لسفن التجارة بين العراقيين وحضارات نهر السند قبل أكثر من أربعة آلاف عام. وفي النقوش أيضا أن ملوك الرافدين وظفوا بحّارة من الفينيقيين لإدارة حملتهم التأديبية ضد حضارات الفرس الأولى، وهذه أحدث بكثير من حضارة الرافدين ودلمون وباقي الخليج.مشكلة تاريخ باقي الخليج أنه لم يردنا منه الكثير من النقوش، لكن مما ورد أن مملكة جرها العربية التجارية قامت يوما في الاحساء السعودية اليوم، وأن الدور، في أم القيوين، كانت تحت حكم مملكة ميسان العربية، التي عاشت قرابة خمسة قرون جنوب العراق وإيران، إلى أن ابتلعها الساسانيون الفرس في فترة صعودهم في القرن الميلادي الثالث.وفي الجميرة، في دبي، أقامت بحرية الإمبراطورية الرومانية حامية للدفاع عن السفن وتزويدها بما يلزم في القرن الميلادي الأول.ومثل كنعانيي البحر الأبيض المتوسط، المعروفين بالفينيقيين، والذين صاروا أرباب البحار وأقاموا امبراطوريات بحرية، كذلك عرب الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي غربا حتى القرن الإفريقي.واللافت أن الشعوب المجاورة، مثل الفرس، لم يمتهنوا الإبحار، بل هم احتقروه، واعتمدوا على العرب لقيادة بحريتهم وسفنهم، وأسمى الفرس بحارة العرب النواخذة، وهي كلمة مجهولة المصدر، يحتمل أنها مستقاة من كلمة ناحية السامية، بمعنى اتجاه، ومفردها ناح أو نوح.واستمرت سطوة العرب على البحار، فسكنوا وحكموا الخليج على كل ضفافه، ومازالت غالبية سكان عربية تسكن ضفاف الخليج، من جهة الدول العربية وكذلك إيران.واشتهر من العرب بحّارة بلغوا مقامات اسطورية، مثل الإماراتي ابن ماجد. ثم مع انحسار القوة البرتغالية في الخليج، صعدت سلطنة عمان وزنجبار، التي امتدت حتى القرن الإفريقي، وعاشت حتى مطلع القرن العشرين، في وقت ساعدت القوة البريطانية حكّام إيران على توسيع سلطانهم لاجتياح وضمّ إمارات وممالك عربية متعددة على الضفة الشرقية من الخليج، والاستيلاء على جزر ما تزال آثارها ونقوشها تؤكد الملكية العربية والمشرقية، مثل جزيرة خرك، حيث الصلبان النسطورية تكلل بعض القبور. وفي زمننا الحديث، لا تكاد تمر سنة أو أكثر من دون أن تعلو أصوات إيرانية معلنة ملكيتها للبحرين أو حتى لتدمر السورية، عاصمة المملكة التدمرية التي كانت في القرنين الميلاديين الثاني والثالث مثل الإمارات اليوم في محوريتها التجارية والاقتصادية وبحبوحتها.لم يكن عرب الخليج برابرة بلا حضارة، بل كانوا بحّارين وتجارا واستقطبت ممالكهم تجّار العالم، من الفرس واليهود وغيرهم، على غرار إمارات اليوم، ثم جار عليهم الزمن، فضمرت حضارتهم وعاشوا في شظف، إلى أن أعادت الثورة النفطية إحياء ثقافتهم التجارية، وإحياء إماراتهم وبحبوحتهم، ومعها متاحفهم وسائر معالم الثقافة في بلادهم.