أظهرت أرقام موازنة العراق للعام الحالي، زيادة ضخمة وغير مبررة، في الأموال المخصصة لـ "الحشد الشعبي"، إذ خصّصت بغداد لهذه الميليشيا الموالية لطهران، 2.8 مليار دولار، أو ما يوازي 38% من إجمالي موازنة وزارة الدفاع العراقية. وموازنة الحشد هذه، هي أكبر من موازنة جيوش عربية كاملة، كالأردني واللبناني والسوداني والتونسي.كذلك أظهرت الموازنة العراقية، ارتفاعا مهولًا في عدد منتسبي "الحشد الشعبي": من 122 ألف مقاتل في عام 2021 إلى 238 ألف مقاتل هذا العام.تمويل الحشد الشعبي وللمقارنة، تقوم الحكومة الأميركية بتمويل فصائل البيشمركة الكردية المسلحة، التي كانت أول من ساهم في التصدي لداعش، على إثر انهيار الجيش العراقي في الموصل في صيف العام 2014. ويبلغ التمويل الأميركي 260 مليون دولار سنويا، منها 20 مليونا شهريا، مخصصة لرواتب المقاتلين الأكراد.وللمقارنة كذلك، تبلغ موازنة الجيش العراقي 7 مليارات دولار، مخصصة لتمويل 310 آلاف جندي، فضلًا عن تشغيل وصيانة 34 مقاتلة "أف 16" الأميركية الصنع، ومعها قرابة 1000دبابة، ومئات المروحيات والمدافع، وآلاف ناقلات الجند."الحشد الشعبي" كانت قد تشكّلت، حسبما تزعم، بموجب فتوى "الجهاد الكفائي" الصادرة عن مرجع النجف علي السيستاني للقضاء على داعش، على أنّ دولة العراق تحتفل في 10ديسمبر من كل عام، بما تسمّيه "عيد النصر"، أي ذكرى دحر تنظيم داعش الإرهابي في العام 2017، وهو ما يجعل الزيادة الضخمة في تمويل وعديد "الحشد الشعبي" في زمن السلم الذي تلى الانتصار، أمرا عجيبًا وغير مبرر. أما السبب الأرجح خلف الزيادة، فهو قيام حكومة محمد السوداني باسترضاء الكتل البرلمانية للحصول على تأييدها لإقرار موازنة العراق للأعوام الثلاثة القادمة. وفي "مجلس النواب" العراقي 73 نائبا من "الحشد الشعبي" نفسه، ممّن لقوا هزيمة قاسية في الانتخابات البرلمانية في العام 2021 على أيدي مرشحي الكتلة المؤيدة للزعيم مقتدى الصدر. إلا أنه بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، صار الخاسرون نوابا بموجب تفسير دستوري عجيب غريب، إذ كيف يصبح من اقترع العراقيون ضدّهم نوابا عنهم، يمثّلونهم ويصوّتون في "مجلس النواب" باسمهم ودفاعا عن مصالحهم.والغالب أنّ الكتلة البرلمانية الموالية لميليشيا "الحشد الشعبي" لا تصوّت لمصلحة العراقيين الذين تمثّلهم، بل لمصلحة الأحزاب الموالية لطهران، التي تنتمي إليها، وهو ما يطرح السؤال التالي: "كيف تفيد إيران من مضاعفة عديد مقاتلي الحشد الشعبي"؟. الجواب الأرجح هو أنّ قيادة "الحرس الثوري" الإيراني تفيد من أموال "الحشد الشعبي" للإثراء الفردي، وكذلك لتمويل الفصائل المؤيدة لإيران في دول عربية أخرى غير العراق، مثل لبنان وسوريا. أما آلية الإفادة الإيرانية من موازنات ميليشيا "الحشد الشعبي" الضخمة، فيمكن فهمها بالنظر إلى أسباب انهيار الجيش العراقي أمام داعش في صيف 2014، إذ أظهرت التقارير الدولية أنّ عديد الجيش العراقي في الموصل، كان جزءا بسيطا من العديد المسجّل على الورق، وذلك لأنّ عددا كبيرا من المسؤولين والضباط العراقيين، كانوا يتشاطرون وجنودا عراقيين رواتبهم، مقابل بقاء الجنود في منازلهم، أو حتى مزاولتهم أعمال ربحية غير عسكرية. وفي بعض الحالات، كان هناك لوائح رواتب لأشباح لدى الجيش العراقي، وكان كبار الضباط أو المسؤولين الفاسدين في الدولة، يتقاضون هذه الرواتب ويثرون منها.في حالة "الحشد الشعبي"، الأغلب أنّ عديد مقاتليها هو جزء صغير جدا من الربع مليون مقاتل، المعلنة في الموازنة العراقية، وهو ما يفسر ضعف "الحشد الشعبي" عسكريا، كما بدا في المواجهة القصيرة التي خاضتها في وجه هواة من أنصار الصدر، إذ كبّد هواة الصدر الميليشيات الموالية لإيران خسائر كبيرة، على عكس ميزان القوى والتمويل والعديد، قبل أن يفرض الصدر وقفا لإطلاق النار لحقن الدماء العراقية.حجب الدولارومن مضاعفات نهب رواتب "الحشد الشعبي"، تراجع سعر الدينار في السوق السوداء أمام الدولار. صحيح أنّ موازنة الحشد تقارب 3 مليارات دولار سنويا، إلا أنّ حكومة العراق تنفق هذه الأموال بالدينار العراقي، وهو ما يُغرق السوق العراقية بالدنانير. ثم تعمد الدوائر الموالية لطهران إلى تحويل مليارات الدنانير العراقية هذه إلى دولارات، عن طريق محال الصيرفة العراقية، التي تشتري الدولار بدورها في مزادات المصرف المركزي العراقي، وهو ما يُفرغ الخزائن الحكومية العراقية من الدولار. أما إن امتنع المصرف المركزي عن شراء الدنانير من السوق للحفاظ على مخزونه من الدولار، يرتفع سعر الدولار أمام الدينار.لهذا السبب، هدد الاحتياطي الفدرالي الأميركي السلطات العراقية، بوقف تزويدها بالدولارات ورقيا، وطالبها بالتزام الأنظمة الدولية المتعارف عليها، والتي تستند إلى التحويلات الرقمية بدلا من العملة الورقية. لكنّ التحويلات لا تفيد طهران، لأنها عرضة للعقوبات الأميركية، ما يدفع الإيرانيين للاستعاضة عنها بسعي دائم للحصول على دولارات لتمويل "الحرس الثوري" والميليشيات التابعة له في المنطقة.ومع تعاون بغداد مع مطالب الفدرالي الأميركي، صار سعر الدولار التحويلي ثابتا أمام الدينار بشكل لا يُفرغ الخزائن الحكومية العراقية، وفي الوقت نفسه انهار سعر الدينار أمام الدولار الورقي في السوق العراقية. لكنّ الانهيار الورقي لا يؤذي العراقيين، بل يؤذي السوق السوداء الخارجة عن قوانين النظام المالي العالمي.في مقابلة للسفيرة الأميركية في بغداد إلينا رومانسكي مع قناة "سكاي نيوز عربية"، قالت المسؤولة الأميركية إنّ العراقيين سئموا الميليشيات، وإنّ أميركا باقية في المنطقة. أما السوداني، بدوره، فهو يقدّم تنازلات للطرفين: تنازلات للنظام العالمي، ممثّلا بالولايات المتحدة، لحماية اقتصاد العراق، وتنازلات لنظام الميليشيات الإقليمي الخارج عن القانون الدولي، ممثّلا بميليشيا "الحشد الشعبي" وعرابيها في طهران، لحماية نفسه والعراقيين من عنف هذه الميلشيات.هكذا، تقدّم حكومة السوداني سياسة عراقية متناقضة وغير متماسكة، وهي سياسة تأتي غالبا على حساب العراقيين ومصالحهم ومستقبل أجيالهم القادمة.