وسط مناخ من التباطؤ الاضطراري لاقتصاد مزقته سنوات الحكم "الإخواني"، وفاقمت أزمته تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية الطاحنة، تسیر تونس نحو استكمال مسارها السیاسي الجدید بنسق لا ينقصه المغالبة، ولا یعوزه الإصرار على تصفیة التركة الثقیلة للتحالف الثلاثي البغیض "الفساد المالي والإداري والسیاسي".في بداية يناير الجاري، صدرت أحكام قضائیة رادعة في قضیة النفایات الإیطالیة، والتي تراوحت بین 3 و10 سنوات، وسُجن فيها كبار المسؤولین عن نقل النفایات الملوثة إلى الأراضي التونسیة، ومنھم وزیر بیئة سابق ومديرين عامين ورجال أعمال، حيث قوبل ذلك بارتياح في الرأي العام، ما يُعد بمثابة دليل دامغ على أن الشارع التونسي سيكون أكثر ارتياحا من التقدم الملحوظ في تحقيقات قضائية حول ملفات كبرى، طالها غبار النسیان طیلة سنوات حكم "حركة النھضة"، التي وضعت یدھا الطولى على المؤسسة القضائیة. لقد صدرت أواخر دیسمبر الماضي قرارات قضائية في حق رئیس الحكومة الأسبق والقیادي النھضاوي علي العریض في القضیة المعروفة بملف "التسفیر إلى بؤر التوتر"، والتي استغرقت التحقيقات فیھا أشھرا عدة منذ بدایة فبراير 2022. وطالت التحقيقات جهات أمنية متورطة في تسھیل تحركات الإرھابیين من تونس نحو لیبیا وسوریا والعراق، لتكشف عن عدد كبير من جوازات السفر الممنوحة إلى إرھابیین، وعن تواطئ موثّق لأصحاب القرار السیاسي وعدد من مسؤولي أمن المطار، وعن أموال طائلة رُصدت لتمویل تدفق المقاتلین إلى مناطق الحروب بین عامي 2012 و2014.وفي أوائل يناير 2023، تقدمت التحقيقات في قضیة أخرى متصلة، وھي قضیة جمعیة "نماء" التي تأسست في عام 2011، وتوصّلت "محكمة المحاسبات" إلى مبالغ بملایین الدینارات التي ضخت في أرصدة الجمعية المصرفية بطریقة مشبوھة وغیر قانونیة، ليتم توجیھھا نحو تمویل أنشطة سیاسیة لصالح "حركة النھضة". وشھدت القضیة تقدما في التحقيقات أدى إلى تجمید أرصدة رئیس الحركة راشد الغنوشي وابنه وعددا من المقربين منه. وكذلك أدى ذلك إلى تجمید أموال رئیس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي وصھره، والأكثر من ذلك هو إیقاف أحد رجال الظل عبد الكریم بن سلیمان، والذي تضمنت الاعترافات المدویة للقیادي النھضاوي عادل الدعداع على أنه بمثابة أمین المال السري الذي یدیر أموال رئیس الحركة، والغطاء الذي تقف وراءه عملیات تھریب الأموال من وإلى تونس.وإذا أضفنا إلى ذلك خضوع وزیر العدل "النھضاوي" السابق نور الدین البحیري إلى تحقيقات جزائیة بشأن منح الجنسیة التونسیة لعناصر مشتبه فيها، فإنه يبدو واضحا أن الغطاء الأمني والقضائي قد رفع بشكل تام عن "الإخوان" بعد سنوات من التعتیم. هذا الأمر ما كان لیتحقق لولا نجاح "سلطات 25 يوليو" في تفكیك هذه المنظومة التي كانت تشكل الحدیقة الخلفیة للتمكن "الإخواني" ومنھا المجلس الأعلى للقضاء، والذي حُل في 6 فبراير 2022، تزامنا مع ذكرى اغتیال الشھید شكري بلعید، واستبداله بمجلس مؤقت نجح إلى حد معقول في إبعاد منظومة العدالة عن حقل التجاذب والھیمنة السیاسیة. لكن ھذه القرارات الجریئة، لم تمر من دون أن تخلف ردود أفعال بائسة ويائسة في الوقت نفسه، إذ استدعى "الحلف النھضاوي" كل حلفائه من منظومة المحاصصة الغنائمیة التي كرسھا دستور 2014، وذلك في شكل جبھات سیاسیة مضادة لمسار 25 يوليو، في محاولة للركوب على الأزمات الاقتصادیة والاجتماعیة، سعیا لاستدراج الساحة التونسیة ودفعھا إلى المطالبة بإحیاء المنظومة السیاسیة لدستور 2014.في الواقع تعتبر محاولة إحياء المنظومة السياسية الموبوءة بـ"الإخوان"، مضادة لما قرره الشعب التونسي بفئاته المختلفة، بعدما كتب من خلال تحوله التاريخي السطر الأخير في أكبر عملیة تخریب ممنھج لمؤسسات الدولة تحت ستار دیمقراطیة زائفة، وحصیلة مأساویة من الانھیارات الاقتصادیة والاجتماعیة. في هذه اللحظة الراھنة التي لا یمكن إخفاء صعوباتها وتعقد رھاناتھا، یشق المسار السیاسي لتونس الجدیدة طریقا وعرة منشغلا من جھة بندرة الموارد المالیة وتفاقم الأوضاع المعیشیة للمواطن، ومن جهة أخرى محملا بكثیر من الإصرار والتصمیم للتضحية في سبيل إنجاح مسار 25 يوليو، وتثبیت أساسات المستقبل وسط حقل متشابك من ألغام ماضٍ یرید إعادة إنتاج نفسه بكل الأثمان ولو في شكل مھزلة. لقد بدأت ملامح ھذه المھزلة تتراءى مع الفشل الذریع لما نظمته "جبھة الخلاص"، الغطاء الجبھوي لحركة النھضة، من تحركات میدانیة، وھي تحركات قوبلت برفض شعبي وصل إلى حد طرد المواطنين رموز ھذه الجبھة من منطقة المنیھلة في العاصمة یوم الأحد 8 يناير. وربما تكون ھذه الرسالة من عمق الأحیاء الشعبیة التونسیة مؤشرا واضحا على حسم الأمر من جھة الرفض القاطع للعودة إلى الوراء، غير أن التحدي الأبرز یظل قائما، لذا كیف یمكن الموازنة بین تفكیك إرث متھالك وبناء مشھد جدید؟كیف یمكن بناء المستقبل وسط حقل ألغام الماضي؟هذه تساؤلات المرحلة التي تضع على عاتق الرئیس قیس سعیّد وحكومته وأنصاره مسؤولیة وطنیة كبيرة، ليست فقط من أجل حمایة الإنجاز السیاسي، بل تعزیز أجندة إصلاح اقتصادي واجتماعي تعطي للتونسیین إحساسا بأن حیاتھم تسیر نحو الأفضل.