صار موضوع الهجرة من إفريقيا جنوب الصحراء إلى بلدان المغرب موضوعا مؤرقا للرأي العام، وقد اختلفت المقاربات السياسية لهذه الظاهرة بشكل واضح بين المغرب وباقي البلدان المجاورة، ففي الوقت الذي تعاملت فيه بقية البلدان بشكل صارم وأحيانا لا إنساني مع المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، اعتمد المغرب سياسة مغايرة تماما، خصوصا بعد أن صار يتحول بالتدريج إلى "بلد إقامة" لهؤلاء المهاجرين بعدما كان مجرد "بلد عبور" لهم نحو أوروبا.هذا التحول جعل المغرب يضع سياسة مميزة لاستيعاب جزء من هؤلاء المهاجرين الذين يستقرون في المغرب ويعملون، وهو ما دعمته أوروبا نظرا لحاجتها إلى تقليص أعداد المهاجرين إليها الذين يجتازون نحو الضفة الشمالية للمتوسط بطرق غير شرعية.زواج المغربيات من أفارقةوكان رد فعل المجتمع المغربي تجاه هذه الظاهرة في البداية متباينا بين الاستهجان وبين التعامل الإنساني، وظهرت في الوقت نفسه موجة عنصرية ضد هؤلاء المهاجرين واجهتها موجة مضادة من الحركات المدنية التي اعتبرت الهجرة ظاهرة إنسانية لا ينبغي التعامل معها بالسلوكات العنصرية أو أي شكل من أشكال الكراهية، مما أنتج نقاشا عموميا استمر لمدة غير يسيرة. وقد تزامن ذلك النقاش مع تزايد أعداد المهاجرين الأفارقة واحتلالهم لفضاءات بعض المدن الكبرى، حيث لم تستطع سياسة الدولة استيعاب الوافذين لكثرتهم.في هذه الظروف بدأت تتشكل أنماط علاقات جديدة مع هؤلاء المهاجرين، وخصوصا منهم الذين يعملون في بعض الأوراش كالبناء، أو الذين يفضلون ممارسة التسول في بعض نقط المرور رغم ما يتسبب فيه ذلك من إزعاج.وقد استطاع بعض الأفارقة الاستقرار وتسجيل أطفالهم الذين ولدوا بالمغرب في المدارس، كما بدأت ظاهرة التزاوج بين مغربيات وأفارقة من جنوب الصحراء، مما يشير إلى تغلب المغاربة على المشاعر السلبية التي ولدها الاحتكاك الأول بهؤلاء المهاجرين.ونظرا لتزايد ظاهرة زواج المغربيات من بعض المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء فقد انتشرت بعض المواقف المتشددة على شبكات التواصل الاجتماعي تدين هذه الظاهرة وتحرض على رفض زواج المغربيات من أفارقة ذوي البشرة السمراء، مما أثار نقاشا حادا جعل الفاعلين الحقوقيين والمناضلات في الحركة النسائية يتدخلون ضد كل ردود الأفعال السلبية، معتبرين زواج المغربيات بأجانب شيئا طبيعيا أيا كانت ألوانهم وأصولهم، بينما اعتبر بعض المحللين أن رفض بعض المغاربة لهذا الزواج بين مغربيات وأفارقة هو من مظاهر الوصاية الذكورية على جسد المرأة وضميرها، مما جعل الحركة النسائية تنتقد بشدة تلك المواقف وتعتبر أن المرأة المغربية حرة في اختيار شريك حياتها أيا كان أصله أو عرقه أو لونه.تاريخ تجارة الرقوتجدر الإشارة أن في جذور هذه المواقف السلبية إزاء المهاجرين من جنوب الصحراء تاريخ طويل من تجارة الرقيق كانت تربط المغرب "ببلاد السودان" وهو الإسم الذي أطلقه المؤرخون القدامى على جميع بلدان جنوب الصحراء وخصوصا مالي والنيجر والسنغال وغانا التي كان للمغرب علاقات تبادل كبيرة معها عبر التاريخ. ولقد أدت تجارة الرق والعبودية طوال قرون إلى تشكل شريحة هامة من الشعب المغربي من مواطنين ذوي بشرة سوداء، ونجد في الثقافة الشعبية المغربية (الحكايات والأمثال والأغاني) الكثير مما يعكس الصورة السلبية التي صنعها الوجدان المغربي للإنسان الأسود، الذي اعتبر دائما من سلالة العبيد، ورغم مرور عقود طويلة على انقضاء التاريخ السلبي للعبودية، ورغم نسيان الأجيال المتعاقبة من المغاربة لذلك التاريخ الذي لم يعيشوه بل سمعوا عنه فقط، فقد ولد ذلك سلوكا لا شعوريا بتعامل تمييزي لا يحس به الكثيرون تجاه مواطنيهم من ذوي البشرة السوداء، بقيت له من دون شك ترسبات في الوعي العام سرعان ما انبعثت من جديد مع ظاهرة المهاجرين الجدد من بلدان جنوب الصحراء.يعيش المغرب تحولات على شتى المستويات، ويعرف ظواهر جديدة غير مسبوقة، لكنه بثقافته المنفتحة، يقوم بتدبيرها دائما بنوع من الحكمة التي ترسخ قيم التعايش والتبادل والحوار، بدلا من الممانعة والنبذ والقطيعة، ولا شك أن ظاهرة التزاوج بين مغربيات وأفارقة، ليست سوى مظهر من مظاهر عودة المغرب إلى انتمائه القاري الذي طالما تجاهله بسبب اختيارات سياسية فرضتها سياقات ظرفية.(المشهد)