من بن قردان المدينة التي أصبحت رمزًا وطنيًا لصدّ العدوان الإرهابي، ألقى الرئيس التونسي قيس سعيد كلمة الاحتفاء بالذكرى 14 لانتفاضة 17 ديسمبر 2010 والتي تحولت بعد الحدث التاريخي لـ25 يوليو إلى عيد وطني للثورة. وإذ خلدت كلمة الرئيس هذه الذكرى كحدث فارق كانت فيه الكلمة الأولى للمفقّرين والمهمشين الذين سالت دماؤهم دفاعًا عن الحرية والكرامة، فإنها لم تغفل عن ربط الماضي بتحديات الحاضر والمستقبل حيث تحضر الوحدة الوطنية كصمام أمان ضد كل المتربصين بتونس في عالم تفصح خارطته عن تحولات مربكة وفي وطن ما زالت داخله بعض جيوب العشرية الحالكة تحاول دون جدوى استجماع حنينها إلى سنوات الفوضى والانفلات. من بن قردان التي صدت عدوانًا إرهابيًا همجيًا سنة 2016 إلى قابس ثم سيدي بوزيد تنقل الرئيس يوم 17 ديسمبر 2024 في رمزية تناغم قوي بين جهات البلاد التي انطلقت من وحي إرادة شعبها عملية تصحيح لسطور التاريخ السياسي لتونس. والحديث عن 17 ديسمبر الآن يحيلنا وجوبًا إلى تلك المراوحة غير المتوازنة بين ثورة اجتماعية أرادت العيش الأفضل وبين مقاسمة سياسية في 14يناير 2011 كرست المثال الأسوء للتوظيف السياسوي لنضالات أبناء الشعب في نطاق تحاصص ذهب فيه النصيب الأكبر إلى جماعة الإخوان التي تاجرت بدم الشهداء، بل حولت حلمهم بالحرية والكرامة إلى سراب تذروه رياح النهب والتفقير والترويع. هل انتفض الشعب في 17 ديسمبر ليزداد الفقراء فقرًا بعد 14يناير؟ انطلاقًا من هذا السؤال الحارق، نفذ المشروع السياسي لـ25 يوليو إلى عمق الحل، وذلك بإحلال ما اعتبرته منظومة العشرية "هامشًا اجتماعياً" في محل المحور السياسي المركزي لتونس الجديدة.كان ذلك أولًا بإعادة تعريف الثورة زمنيًا ومضمونيًا على اعتبار أن حدث 14 يناير 2011 لم يكن سوى عملية تصريف سياسي التفافي قفز على نضالات المحرومين في 17 ديسمبر 2010 ليزيدهم حرمانًا. وكان ذلك ثانيًا باستحضار الفئات الفاعلة في الثورة الاجتماعية ضمن هيكلة البناء السياسي الجديد عبر إعادة المشهد الانتخابي إلى التمثيلية القاعدية المحلية يدل الاقتراع على القائمات الحزبية، وكان ذلك ثالثًا عبر آليات تمكين اقتصادي لفائدة أبناء الجهات المحرومة أهمها الشركات الأهلية التي تتكون في النطاق المحلي كمورد للتنمية المتضامنة يفتح الفرص والآمال أمام من عاشوا التهميش والتفقير والبطالة. ويمكن القول هنا إن منظومة 25 يوليو شكلت النقيض الجوهري لمنظومة الحيف والاستغلال التي راكمت البؤس الاجتماعي تحت ستار ديمقراطية مزيفة لا تتجاوز حدود تقاسم الغنائم بين تجار الدين وحيتان الاقتصاد الريعي. وإذ يتطلب الصدق في التوصيف شيئًا من الواقعية فإن القول بتحقق شعارات 17 ديسمبر على أرض الواقع الملموس لا يزال في حاجة إلى التنسيب، لأنّ ما خلفته حقبة العشرية من أزمات مالية لا يمكن الدولة من الموارد اللازمة لتغطية الاحتياجات المتزايدة للمواطنين الباحثين عن الأفضل.لكن أصعب الأمور بداياتها والبدايات تفصح عن مقدمات جيدة لوضع هياكل الدولة على سكة الإصلاحات المتدرجة والثابتة. لقد تحرر أبناء تونس سياسيًا وهذا أمر يُيسر مرورهم إلى بناء اقتصاد لا يهيمن عليه الحيف والفساد.. أما الازدهار والوفرة فهما رهينة عودة الروح إلى منظومة الإنتاج الذي يخلق الثروة ومنظومة الاستثمار الذي يحرك المشاريع المشغلة، وهذا ليس ببعيد المنال في بلد قرر التعويل على الذات.. من بن قردان الصامدة كانت كلمة الاحتفاء بحدث لا بد أن يصمد في وجه محاولات الإرباك والانتكاس.. ومن كل مدن تونس تأتي الأخبار بإصرار عنيد على مواصلة البناء رغم الجراحات التي خلفتها المراحل والصعوبات التي راكمتها تحولات العالم السائر بدوره على رمال متحركة.