طالما شكل مفهوم الوحدة الوطنية مثار جدل في المشهد السياسي التونسي لكنه صار الآن وفي ظل ما يشهده البلد من تحولات عميقة موضوع الساعة، ومثار نقاط خلافية تستحق النظر والمقاربة. فللسلطة السياسية رؤية للمسألة تجد ما يناقضها تماما في الصف المقابل وتحديدا عند الطيف الحزبي المناهض لمسار 25 يوليو.لقد طرح الرئيس التونسي قيس سعيّد هذا الموضوع من زاوية دعوة لوحدة وطنية صماء في مواجهة تحديات ماثلة تهم العمل الجماعي على رفع مؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وفي مواجهة تحديات قادمة ستحتمها التحولات الدولية المتسارعة. وهذه الوحدة لا تتعلق مطلقا بتجميع للأحزاب والمنظمات في ملتقيات بروتوكولية غايتها تقاطع المصالح، بل تتصل بوحدة الدولة عبر مؤسساتها وشعبها وقواها الداعمة لمسار التحرر الوطني والتعويل على الذات، الذي كان منطلقا محوريا للمشهد الجديد، ولدستور تونس الجديد. أما في الصف المقابل، فإن ما بقي من التمظهرات الحزبية للمرحلة القديمة يرى في الوحدة الوطنية إعادة إنتاج لصيغة الحوار الوطني المستوحى بل المستنسخ أصلا من التفاهمات التي حصلت خلال ما أسمي بمرحلة التوافق. وكانت تونس قد عاشت نوعين من الحوار الوطني، الأول كان خلال سنة 2013 بعد سلسلة الاغتيالات السياسية والأعمال الإرهابية في فترة حكم "حركة النهضة"، وقد قادته المنظمات الوطنية (اتحاد الشغل وهيئة المحامين واتحاد الصناعة والتجارة و رابطة حقوق الإنسان)، وأفضى إلى حكومة انتقالية لإعداد انتخابات 2014. أما الثاني فكان بعد هذه الانتخابات بعنوان قرطاج1 و قرطاج2 ولم يتعد حدود إعادة التحاصص على الحكم بين حزبي التوافق نداء تونس والنهضة وما أحاط بهما من أحزاب حليفة، وكانت هذه الصيغة الحوارية المفرغة من أي عمق شعبي رجع صدى لما تضمنه دستور 2014 من تشتت لغرف الحكم (برلمان ورئاسة جمهورية ورئاسة حكومة) أفضى إلى لجوء مستمر للتسويات وتغيير التركيبات الحكومية.إذن نحن أمام اختلاف جوهري بين ما تطرحه رئاسة الجمهورية من وحدة وطنية تستبعد تماما أي عودة للماضي. وبين ما يطرحه خصوم المسار من حوار وطني غايته الأساسية هي إعادة استحضار هذا الماضي. وبين هذا وذاك تتواتر مقترحات أخرى هي أقرب إلى مفهوم الجبهة الوطنية منه إلى مفهوم الوحدة الوطنية، وتطرحها بعض القوى اليسارية والعروبية التي ساندت مسار 25 يوليو نقديا، والتي تدعو إلى توسيع المشاركة السياسية وتعزيز مناخ الحريات العامة.تسلل جماعة "الإخوان"وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد طرح بدوره مقاربة للحوار الوطني لكنها لا تختلف جوهريا عن صيغة حوار 2013 التي فقدت حسب عدد من الملاحظين مسوغات استمرارها نظرا لارتباطها بسياق محدد وبظروف سياسية مغايرة، حيث أنها كانت تعالج مخلفات تنظيم محاصصي للحكم جعل الصلاحيات تتوزع بين مراكز قوى فاقدة لأي ارتباط بالمطالب الشعبية. ولئن أفضى حوار 2013 فعلا إلى الحد من نزيف الفوضى ومظاهر العنف، فإنه لم يمس أصلا ببنية الحكم المتشظية، ولا بالتحالف الأخطبوطي بين حيتان السياسة ورموز اقتصاد الريع.وفي قراءة لهذا النقاش العام أخذا بعين الاعتبار خصائص البناء الجديد الذي لا يعطي أهمية كبرى للوسائط الحزبية والمنظماتية في تشكيل المشهد السياسي، يمكن القول إن هناك ما يشبه الاستحالة لاعادة إحياء مفهوم الحوار الوطني بشكله القديم والذي يحمل بدوره محاذير عدة ليس أقلها تسلل جماعة "الإخوان" (وقد شرعت بعد في المحاولة) إلى هذه الصيغة الفضفاضة من الحوار للتعويم على ملفاتها القضائية الشائكة التي تتواتر المحاكمات بشأنها، والتي تحملها المسؤولية الجزائية عن سنوات الفوضى والإرهاب والاغتيالات.يبدو النقاش مهما حول هذا الموضوع في تونس التي تنخرط فعليا في إعادة بناء الذات في سياق مواجهات كبرى ضد الفقر والبطالة والتهميش محليا، وضد الحيف والاستغلال والمشروطية وازدواجية المعايير دوليا. لكن أهمية هذا النقاش التعددي الذي يعطي للجميع شرعية الاختلاف في الرأي والتصور، لا تسوغ بأي شكل من الأشكال العودة بسير الزمن إلى الوراء، فآثار الأقدام الثقيلة للماضي والتي لا تزال بصماتها ماثلة في الذاكرة الوطنية على هيئة جراحات غائرة، لا بد أن تمحى من الحاضر ضمانا لعدم تكرارها في المستقبل. فهل للساحة السياسية الآن وهنا أن تتفاعل بالواقعية المطلوبة مع هذه البديهية القائلة بعدم العودة إلى الوراء، ثمة جزء مهم من النسيج السياسي بدا يفكر في ذلك بجدية، وثمة جزء آخر لا يرى حاضره الا بمرآة ماضيه، وهذا هو الجزء الذي سيظل بالنتيجة خارج معادلة المرحلة الجديدة.