شهدت العلاقات الروسية الأميركية تطورات متسارعة في الآونة الأخيرة، مع بدء جهود دبلوماسية لإعادة توجيه المسار بين البلدين، وجاءت الاجتماعات التي عُقدت في الرياض كإشارة واضحة إلى الرغبة في فتح قنوات الحوار من جديد، رغم التوترات العالقة. لكن لتحقيق تقدم ملموس، تحتاج هذه العلاقات إلى حوافز ومزايا متبادلة تعزز من المصالح المشتركة، فهل يكون إعادة رسم الوضع الجديد عبر تقديم موسكو لمزايا اقتصادية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعلى رأسها التعاون في استخراج المعادن الأرضية النادرة، وهو ملف يحمل أبعاداً جيوسياسية واقتصادية عميقة؟وإن عرضت روسيا على الولايات المتحدة إمكانية استخراج المعادن الأرضية النادرة في كل من روسيا والمناطق التي تسيطر عليها في أوكرانيا، وهو ما قد يشكل نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، هذه المعادن تُعد عنصراً حيوياً في الصناعات التكنولوجية والعسكرية، حيث تعتمد عليها واشنطن في تصنيع أشباه الموصلات والمعدات الإلكترونية المتقدمة، لكن هذا العرض، رغم إغراءاته الاقتصادية، قد يتحول إلى فخ جيوسياسي يعيد تشكيل التحالفات الدولية، ويثير ردود فعل قوية من الاتحاد الأوروبي والصين.ولا يخفى أن موسكو تسعى من خلال هذا العرض إلى تحقيق مكاسب متعددة المستويات، فمن جهة، تريد تعزيز سيطرتها على الأسواق العالمية للمعادن النادرة، ما يمنحها قوة في المفاوضات الاقتصادية، ومن جهة أخرى، تسعى إلى إحداث شرخ في التحالفات الغربية، حيث يشكل أي تقارب بين واشنطن وموسكو مصدر قلق لأوروبا التي تعاني تداعيات الصراع الأوكراني، وإذا قبلت إدارة ترامب العرض الروسي، فقد يكون لذلك تأثير مباشر على سياسات العقوبات المفروضة على موسكو، مما قد يفتح المجال أمام تغييرات كبيرة في المشهد الجيوسياسي.المعادن النادرةوعلى الرغم من أن التعاون في مجال المعادن النادرة يبدو صفقة رابحة لكلا الطرفين، فإن هناك عقبات رئيسية قد تعرقل تنفيذه، من أبرزها الاعتبارات الأمنية، حيث إن استخراج المعادن في المناطق الخاضعة للسيطرة الروسية داخل أوكرانيا قد يواجه رفضاً دولياً واسع النطاق، كما أن اللوبي الصناعي في الولايات المتحدة قد يعارض هذا التعاون خشية تعزيز الهيمنة الروسية على هذا القطاع الحساس، بالإضافة إلى ذلك، فإن واشنطن ستجد نفسها في موقف حرج بين الاستفادة الاقتصادية من العرض الروسي، وبين الحفاظ على التزاماتها تجاه أوكرانيا وحلفائها الغربيين.بالتالي، إن العروض الروسية الموجهة إلى ترامب ليست مجرد تحركات اقتصادية، بل تمثل جزءاً من إستراتيجية كبرى تهدف إلى إعادة رسم موازين القوى على الساحة الدولية، فإذا مضت الولايات المتحدة قدماً في قبول التعاون الروسي، فقد نشهد مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية تتجاوز الخلافات السابقة، لكنها في الوقت ذاته قد تثير اضطرابات في التحالفات الغربية القائمة، ويبقى السؤال الأهم: هل سيكون ترامب مستعداً لتحمل تبعات هذه الشراكة، أم أن الضغوط الداخلية والخارجية ستمنعه من خوض هذا المسار؟وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى مستقبل التقارب الروسي الأميركي مرهوناً بتوازنات القوى والمصالح الجيوسياسية التي تتجاوز الحسابات الاقتصادية المباشرة. فإذا كانت موسكو تسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي عبر إغراء واشنطن بمزايا اقتصادية وإستراتيجية، فإن قبول ترامب بهذا الطرح لن يكون مجرد خطوة اقتصادية، بل هو تحول جوهري في التوجهات الأميركية على الساحة العالمية، ومن شأن هذا التحول أن يعيد صياغة معادلات التحالف والصراع، ليس فقط في أوروبا، بل في آسيا والشرق الأوسط، حيث تتشابك المصالح الروسية والصينية والأميركية بشكل معقد.لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل أن أي خطوة نحو التقارب ستواجه بردود فعل حادة من النخب السياسية والأمنية داخل الولايات المتحدة، التي لا تزال تنظر إلى روسيا كمنافس إستراتيجي وليس كشريك موثوق، كما أن تأثير هذه التحركات لن يقتصر على العلاقات الثنائية، بل سيمتد ليعيد ترتيب الاصطفافات الدولية، وربما يدفع الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة موقعه بين واشنطن وموسكو، في ظل تهديد محتمل بتقويض وحدة الموقف الغربي تجاه روسيا.بالتالي، إن عودة التفاهم بين واشنطن وموسكو، وإن بدت ظاهرياً كفرصة لإعادة ضبط العلاقات الدولية، قد تكون في جوهرها خطوة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراعات غير التقليدية، فالقبول بعرض موسكو لا يعني فقط مكسباً اقتصادياً، بل هو اختبار حقيقي لمدى قدرة الولايات المتحدة على المناورة في نظام عالمي متغير، حيث لم يعد النفوذ يُقاس فقط بالقوة العسكرية، بل بمدى القدرة على التحكم في الموارد الإستراتيجية وإعادة توجيه المصالح الجيوسياسية بما يخدم الأهداف بعيدة المدى. (المشهد)