توقع الكثيرون في الأعوام القليلة الماضية تقدمًا ملحوظًا لأحزاب أقصى اليمين على الخارطة السياسية في أوروبا، حتى أن الأغلبية من المراقبين اعتبروا أن تقدم تلك القوى مسألة وقت فقط. وبالفعل، أتت الانتخابات الأوروبية الأخيرة في يونيو الماضي وأكدت هذا الأمر مع تحقيق أحزاب أقصى اليمين نتائج وصفت بالتاريخية في تلك الانتخابات. إذ تصدرت أحزاب أقصى اليمين نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا وإيطاليا والنمسا، وحلت ثانية في ألمانيا وهولندا.طبعًا، كان هذا التقدم متوقعًا لأسباب عديدة، أبرزها بالتأكيد ملف الهجرة والأمن، والحرب في أوكرانيا، من دون أن ننسى الوضع الاقتصادي الصعب في القارة العجوز المثقل بالكثير من التحديات. لكن باعتقادي، يبقى هناك سبب آخر تدين له بالكثير أحزاب أقصى اليمين في طفرتها اللافتة الأخيرة، وهو بدون شك جورجيا ميلوني، تلك الشخصية القوية والمحورية التي فرضت نفسها بذكاء على الساحة السياسية الأوروبية كنموذج جيد وحديث لتيار أقصى اليمين. فبغض النظر عمّا إذا كنت مع جورجيا ميلوني أو ضدها، يجب الاعتراف بدور رئيسة حزب أخوة إيطاليا في إحداث تطور لافت وجذري في مسار ومستقبل أحزاب أقصى اليمين على الساحة السياسية الأوروبية. حتى أن هذا التطور بات واقعًا ملموسًا، وأصبح يمكننا اليوم الحديث عن مرحلة ما قبل جورجيا ميلوني ومرحلة ما بعدها. صحيح أن تقدم أحزاب أقصى اليمين في أوروبا بدأ قبل ظهور جورجيا ميلوني، لكن لطالما كان يُنظر إليهم بنظرة سلبية باعتبارهم خطرًا وفئة منبوذة، بالإضافة إلى تصنيفهم كحالة سياسية شعبوية وشاذة بدون أي أفق سياسي واضح."سيدة روما القوية"هذا الواقع المظلم نجحت رئيسة وزراء إيطاليا في تغييره إلى حد كبير في فترة قياسية. وقد تجلّى ذلك النجاح في طيّ تلك الصفحة الحالكة وفتح صفحة جديدة ناصعة أعطت الأمل بمسار جديد لقوى أقصى اليمين في أوروبا. بفطنة وذكاء لافتين، نجحت "سيدة روما القوية" بالقيام بثلاث خطوات استراتيجية وحاسمة، نقلت من خلالها مسار أحزاب أقصى اليمين من قلب الظلمات إلى عالم النور والأنوار. فأولاً، وعلى عكس كافة التوقعات، نجحت حكومة جورجيا ميلوني المصنفة في أقصى اليمين في تقديم نموذج حكم عادي ومقبول في إيطاليا. حكم واقعي إلى حد ما، واضح وقريب من الناس ومن مشاكلهم، لتكسر بذلك الصورة النمطية لأحزاب أقصى اليمين بأنها أحزاب هوائية وفارغة، لا قدرة لها على الحكم. فما يميز رئيسة حزب أخوة إيطاليا هو مقاربتها الواقعية والجدية للأمور السياسية، ومحاولة تفادي الشعبوية والخيالية المرتبطة بشكل أساسي بأحزاب أقصى اليمين. وعلى الرغم من اعتبار البعض أن هذا الأداء طبيعي بالنسبة لشخص في رأس السلطة، فإننا نقول إن هذا الأداء الحكومي الطبيعي لجورجيا ميلوني في إيطاليا كان له من دون شك الأثر الكبير على الناخب في دول عدة في أوروبا، كما أنه كسر التابوهات التاريخية التي شيطنت وصول أقصى اليمين إلى الحكم. أما الخطوة الثانية لابنة منطقة غارباتيللا فتمثلت في إظهار هوية جديدة حديثة ومقبولة لحزبها الذي له "جذور فاشية"، وذلك على عكس الهوية السائدة لأحزاب أقصى اليمين المرصعة بالتطرف والكراهية والغوغائية. فجورجيا ميلوني المتصالحة مع تاريخها أصرت على أن الفاشية هي أيديولوجيا من الماضي ولم تعد صالحة في هذا العصر. وبالتالي، فقد كشفت بذكاء وعناية عن هوية سياسية جديدة ومقبولة تفتخر بها، هي كما تقول هوية محافظة ومسيحية ووطنية، عنوانها الأساسي "الله والوطن والأسرة". هذا التغيير الإيجابي في الهوية، ولو لم يكن حقيقيًا كما يقول البعض، فقد كان له أثر كبير وقبول ملموس في الشارع الأوروبي، وهو ما ساهم في التخفيف من النظرة السلبية تجاه بعض أحزاب أقصى اليمين.ملحمة "سيد الخواتم"هذا ويمكنني القول إن خطوة رئيسة وزراء إيطاليا الثالثة والأخيرة المتجسدة بالاندماج السريع داخليًا وخارجيًا تبقى العلامة الفارقة في مسيرتها السياسية. فجورجيا ميلوني المعجبة الكبيرة بالخيال والفنتازيا نجحت سريعًا وبواقعية ملحوظة في أن تأخذ لنفسها ولحزبها مكانةً وموقعًا مقبولًا ضمن التركيبة السياسية التقليدية، ليس في إيطاليا فقط، بل في أوروبا والعالم. فعاشقة ملحمة "سيد الخواتم" أدركت مبكرًا أنه لا بديل عن الاندماج في المنظومة الموجودة، وبالفعل، فقد اجتهدت وثابرت بعيدًا عن شعارات أقصى اليمين غير الواقعية. وقد استعملت بذكاء ورزانة رئاستها للحكومة الإيطالية لإظهار الاندماج الداخلي، كما استغلت قوة ومكانة الدولة الإيطالية للاندماج الخارجي. خطوة يعتبرها الكثيرون عادية، لكنها بنظري تبقى مصيرية، نظرًا لما كان لها من تأثير كبير على المواطنين في كافة أنحاء أوروبا، لناحية كسر جدار الخوف والرهبة من حكم أحزاب أقصى اليمين. اليوم، لا نستطيع إلا أن نقول إن مسيرة رئيسة حزب أخوة إيطاليا العادية والمستمرة حتى كتابة هذه السطور لم تكن أبدًا عاديةً، كما لم يكن تأثير خطواتها عاديًا لا عليها ولا على حزبها ولا على أحزاب أقصى اليمين. فتلك الأحزاب، وبفضل ما يسميه الكثيرون سحر جورجيا ميلوني، تعيش حاليًا فترةً ذهبيةً وغير مسبوقة في تاريخها. وفي هذا الإطار، سيذكر التاريخ دومًا أن نفحات "سحر جورجيا ميلوني" المنثورة في كافة أرجاء أوروبا هي من فتحت باب جنة الحكم على مصراعيه أمام قوى أقصى اليمين، وأعطتهم الفرصة للانتقال من عالم الخيال إلى أرض الواقع. يقول نيكولو ميكيافيلي "إن التغيير يمهد لتغيير آخر"، وهو أمر تدركه جيدًا "سيدة روما القوية". وعليه، فقد أعطت خلال مسيرتها كل ما يمكن إعطاؤه لأحزاب أقصى اليمين لاستكمال التغيير الذي بدأته هي عبر تجربة "أخوة إيطاليا". فهل تتلقف تلك الأحزاب نفحات "سحر جورجيا ميلوني" أم سيكون لها رأي آخر؟