بعد 15 عامًا، خُتم على جواز سفري مجددًا، عبرتُ الحدود الأردنية، فوجدت مبنى الهجرة والجوازات نظيفًا ومرتبًا وكل شيء فيه منظم! وهذه بحد ذاتها سابقة في سوريا. وقفتُ في صف الانتظار أتمعن كل تفصيل في المكان الجديد، فلاحت لي عين رجل تدعوني أن أقف في صف النساء، رفضتُ بابتسامةٍ خفيفة وقلت: "ليه يعني؟! ومين بتكون حضرتك"، فقال: "أنا مسافر مثلك لكنّ الموظف سيعود لك.. يجب أن تقفي في صف النساء!".عند وصولي إلى الموظف، استقبلني بلطف، سألته إن كان الفصل بين الرجال والنساء إلزاميًا، فأجابني بابتسامة: "لا أبدًا" قفي حيث شئت.. والتفت إلى عمله، ثم رفع رأسه مجددًا قائلًا بتحبب: "بس طبعًا الأفضلية للنساء..". ثم طلب مني مراجعة مكتب الهجرة والجوازات، وقال: "شرفتِ بلدك..شكرته والتفتّ إلى المتبرع بالنصح شامتة!". خرجتُ من المبنى لأدخل الجنوب السوري، حيث غاب أيّ أثر للحواجز الأمنية المخيفة، كما لو أنّ الزمن قد نسيها، ولكنّ الطريق كانت مزنرة بالوجوه الملثمة كما كانت في الأيام الأولى بعد السقوط. تساءلتُ: "لماذا ما زال هؤلاء ملثمين وكيف يميزون بعضهم وكيف يكشفون من يتنكر بزيّهم؟! لا جواب واضحًا لدى أيّ سوري". سألتُ السائق: "هل تخاف منهم؟". فأجابني بابتسامة حزينة: "يا بنتي، هؤلاء لا يخيفون، أصبح لي 30 سنة أعمل على الخط.. الحواجز التي أتعبتنا كان فيها أناس بلا أقنعة.. وكانوا كل يوم يذلوننا ويسرقوننا..". ثم أضاف: "عالقليلة هؤلاء لطفاء".صمتّ لدقيقة، ثم عاد فقال: "لكن يجب أن يرفعوا اللثام!".دمشق: نبض الحياة رغم التعبما زال يُنصح بعدم دخول دمشق ليلًا، خوفًا من الظلام الذي يخفي تقلبات الطرق وانقطاع الكهرباء عن الأتوستراد. لذا حرصت أن أعبر الحدود صباحًا وأصل دمشق نهارًا، توقفتُ في منطقة السبع بحرات، لأجد المدينة تعيش قصتها رغم الإرهاق؛ الأسواق تعجّ بالحركة والناس، اسم أحمد الشرع في كل المحال. تجد صوتًا يقلده وصوتًا ينتقده وينتقد سعر الدولار وآخر يتململ من الوضع المعيشي. بقيت أتجول بين الحارات، وأمسح دموعي بلا سبب واضح، لكنّ الشيء الأكيد أنك في كل زاوية تشعر بأثر لمأساة، وكل بيت تبدو عليه مسحات أسى.في طريقي من باب توما باتجاه سوق الخجا، مرورًا بالحميدية، التقيتُ ببائع العوجا الذي كان يقود عربته الصغيرة العرجاء، كأنها قارب متواضع في بحر السوق المعروف. اقتربتُ منه وسألته عن السعر، فابتسم وقال: "ما بتاخدي إلا ما تدوقي، إلا إذا كنت صائمة". أجبته: "لا، لست صائمة.. كنت على سفر". ثم تساءلتُ: هل يمانع أحدٌ إن ذقنا؟ فردّ بنزق قائلًا: "ما هذا الحكي؟ وأنتِ عندما تصومين، هل تصومين لربك أم تصومين لهم؟ لا علاقة لهم بك، تفضلي تذوقي، وإذا أعجبتك تشترين". وهكذا، تذوقتُ العوجا، وكأنها قطعة من الذاكرة تمحو كل مرارة سنين الغربة.لست في بيروتفي قلب الأحياء، لم أرَ سوى السوريين؛ أما في الأماكن العامة فثمة وجوهٌ ملثمة تتحدث لهجتها الخاصة يرجح أنها سورية أيضًا، يحرسون مداخل الحارات وينظمون السير أحيانًا. وفي الليل يتجولون في الشوارع العامة بأسلحتهم، أما عدد الأجانب والغرباء فقد قل كثيرًا في الشوارع العامة عما كان عند السقوط، كما أنّ المقاهي لا تجد فيها واحدًا منهم كما كانت منذ 3 أشهر.في الليل بدا اعتياديًا أن تعلو أصوات الناس وهي تتداول القصص السياسية مع الشيشة، مع انتقادات تنسجها الهمسات عن مشاكل الكهرباء وغيرها من قصص البقاء. الجديد هو أنّ أسماء من هم على الأمر من وزراء ومسؤولين يرن في أذنيك بشكل متكرر، لدرجة أنك ستذكر نفسك بأنك في سوريا ولست في بيروت. فنحن شعب أمضى عشرات السنين لا يكاد يذكر فيها اسم وزير في حكومة بلاده ولا يعرف حتى من يكون.يبدو عمومًا للزائر أنّ زمن الخيار الواحد انتهى، وبدأ زمن الخيارات.اقتراحات تسمعها في كل مكان عما ينبغي أن تكون عليه الحكومة المقبلة، واقتراحات أخرى لحلول معيشية يتجرأ السوري لأول مرة على البوح بها.هذه هي دمشق اليوم فيها عالمين: الأول يتألم تحت وطأة التعب، وآخر يصر على البقاء رغم كل شيء. وأما القصر، فأصبح فعلاً مكانًا عامًا ومتاحًا للجميع.