لسبب ما، يبدو أنّ أفكار اللبنانيين للخروج وبلادهم من الهاوية قد انعدمت، وأنّ اللبنانيين راحوا يكررون الأفكار البالية نفسها، المتمحورة حول انتخاب رئيس جمهورية، فتشكيل حكومة إنقاذية، فالمزيد من الشقاء والبؤس وتكرار حفلة الزجل المملّة نفسها. خروج لبنان من محنته يتطلب اعتبار أنّ دولة لبنان متلاشية، بالضبط كعملتها التي فقدت قيمتها، وكقوانينها التي تحولت حبرا على ورق.على لبنان التشبه بالإماراتالأفكار الإنقاذية بسيطة وسبق لبطريرك الموارنة بشارة الراعي أن ألمح إليها. نقطة الانطلاق للخلاص هي استقرار لبنان أمنيًا، وهو ما يبدو أنّ زعيم حزب الله حسن نصر الله يدركه، إذ هو أشار إليه في خطاب يوم التحرير، الشهر الماضي. على أنّ المفارقة تكمن في أنّ نصر الله لم يفطن أنّ الاستقرار في لبنان يستحيل مع استمرار إطلالته في خطاباته الحربية العنيفة، عن توحيد الساحات في مواجهة إسرائيل، واندلاع الحرب الكبرى والصمود والتصدي. إن كان لبنان يسعى فعليا للاستقرار، فعليه أن يحذوَ حذْوَ الإمارات، التي تتمتع بعلاقات دبلوماسية وسفارات مع أعتى الأعداء في العالم والشرق الأوسط، فللإمارات علاقات ممتازة بالقوى العالمية: أميركا والصين وروسيا. وللإمارات علاقات ممتازة مع السعودية وإيران، وتركيا ومصر وسوريا. الاستقرار فعليا هو التوصل لأكبر عدد من اتفاقيات السلام الممكنة، والعلاقات الجيدة مع دول العالم، وتفادي الانخراط في المحاور التي قد تضع البلاد في مواجهة بلاد أخرى، أو في محاور إقليمية أو دولية.هذا يعني أنّ حجر زاوية الاستقرار في لبنان، هو توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، مع ما يعني ذلك من كظم أعداء إسرائيل اللبنانيين غيظهم وغضبهم ضد هكذا اتفاقية. وهو يعني كذلك إعادة تفعيل كل المعاهدات الثنائية اللبنانية - السورية، مع ما يعني ذلك أيضا من ضبط غضب لبنانيين كثيرين ممّن يرون في دمشق حكومةً عدوةً للبنان واللبنانيين، ماضيًا وحاضرا.سوريا وإسرائيلالاستقرار في لبنان يعني سلاما مع الأعداء، فالسلام لا يكون عادة مع الأصدقاء أو الحلفاء. وفي الحالة اللبنانية، يشبه السلام مع سوريا وإسرائيل من ”يبلع الموس على الحدّين“، بحسب التعبير اللبناني. يضاف إلى السلام مع العواصم الإقليمية والعالمية، فتح صفحة جديدة بقانون عفو عن كل جرائم الاغتيال، التي لا تزال مفتوحة في المحاكم اللبنانية بادعائها على مجهول. وفي الصفحة الجديدة يسلّم "حزب الله" والميليشيات الفلسطينية سلاحها بالكامل للجيش اللبناني والقوى الأمنية، ويتم رفع هذه التنظيمات وأفرادها عن لائحة الإرهاب والعقوبات في عواصم العالم، ويتحوّل "حزب الله" الى حزب سياسي، يكون أمن قادته ومقاتليه أمانةً في أعناق كل اللبنانيين، ومن أمنهم. ويوم يتيقّن رأس المال العالمي والإقليمي أنّ لبنان دولة يعمّها السلام، وأنه لا يمكن أن يرمي أحد حجرا على أحد، تأتي في المرتبة الثانية مهمة بناء سلطة قضائية. بناء سلطة كهذه يحتاج إلى مساعدة المؤسسات والحكومات الدولية في تدريب وبناء الامكانات لدى القضاة والمحامين وكتّاب العدل، والمصادقة على تشريعات في مجلس النوّاب، تجعل من السلطة القضائية-المدنية والعسكرية- مستقلة تماما عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالعدل أساس الملك، ولا دولة من دون عدالة وقضاء نزيه وشفاف، يتمتع بثقة محلية ودولية.الحدود مع إسرائيلالاستقرار في ضوء السلام، مترافقا مع قضاء نزيه وعادل، يستدر على لبنان استثمارات خاصة لا حدود لها، ويؤدي لازدهار قطاعات خدماتية كثيرة. مثلا، يزور الأماكن المسيحية المقدسة في إسرائيل سنويا، أكثر من 5 ملايين حاج من أقطار العالم. لو صارت الحدود اللبنانية مع إسرائيل مفتوحة، يمكن أن يوسّع كثيرون منهم سياحتهم الدينية إلى قانا، حيث أولى معجزات السيد المسيح بحسب الاعتقاد المسيحي، كما يمكن لزوار لبنان أن يوسّعوا رقعة سياحتهم إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية، مثل بيت لحم والقدس. هكذا تتضاعف التجارة والأعمال لمصلحة كل المعنيين.وقد يعتقد البعض أنّ قطاع الخدمات مشتقّ من خدّامة، أو من عمّال علب الليل والملاهي، إلا أنّ السياحة هي الجزء الأصغر في الخدمات، فلبنان ينعم بموارد إنسانية هائلة متمثلة بعدد خريجي الجامعات والمتخصصين. هذا يعني أنّ كثيرين من حول العالم سيقصدون لبنان للإقامة فيه لفترات وجيزة، للتعلم في جامعاته، كما كان الأمر في الماضي القريب مع الديبلوماسي الأميركي المخضرم من أصل أفغاني زلماي خليل زادة، خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت، ومثله السوسيولوجي العراقي العملاق الراحل علي الوردي، خرّيج الجامعة نفسها. كما يمكن أن يتحول لبنان مقرا للاستشفاء، ويمكن أن تُفتتح فيه شركات التكنولوجيا، التي تسعى لمهارات عالية بتكلفة أقل من الغرب، فروعا كثيرة، ومعها تفتح المصارف الدولية وشركات الهندسة والمحاسبة وغيرها، فروعا تفيد فيها من الموارد البشرية اللبنانية بتكلفة أقل من بلدانها الأم.على هذا الشكل يعود لبنان إلى الحياة، بتبنّي النموذج الإماراتي المبني على اقتصاد المعرفة والخدمات، وحجر زاويته السلام، وعدم الانحياز، والعلاقات المتينة مع كل دول العالم.جنبلاط وبري وباسيلأما فرقة الزجل السياسية اللبنانية، من وليد جنبلاط الى نبيه بري، فسليمان فرنجية الثاني وجبران باسيل، وباقي الزمرة، فلا بأس أن يواصلوا لعبة الكراسي الموسيقية التي يلعبونها منذ تأسيس الكيان. هذه ألعاب لا قيمة لها لو توافر السلام والاستقرار وساد القانون بمؤازرة قوات أمنية تشرف عليها أصلا عواصم العالم، مثل واشنطن في الوقت الحالي. حتى أنّ القطاع الخاص يمكنه أن يزدهر من دون الحاجة لعملة محلية، بل يكتفي باستخدام العملات الاجنبية التي لا تتناقص قيمتها الّا وفق سلّم التضخم العالمي المعروف.المشاعر حول المطالبة بعدالة للفلسطينيين، وتاليا بمواصلة العداء لإسرائيل، مفهومة، وكذلك حب الانتقام من رئيس سوريا بشار الأسد أو إيران أو غيرهما. لكن في المصالح لا مكان للمشاعر، فتكلفة العدالة للفلسطينيين أكبر من طاقة لبنان واللبنانيين. طبعا لا بأس من التضامن مع الفلسطينيين بالموقف والكلمة، لكن على أرض الواقع، على المصالح أن تملي سياسات دولة لبنان، بالضبط مثل السيد رجب طيب إردوغان رئيس تركيا، الذي يصوّر نفسه حامي حمى الفلسطينيين، فيما علاقته بإسرائيل، تجاريا وأمنيا، هي من الأقوى في الإقليم.حبذا لو يرى اللبنانيون مستقبلهم بعقولهم، بما فيه مصلحتهم، بدلا من قلوبهم، بما تمليه عليهم مشاعرهم. يوم يرى اللبنانيون ذلك، تصبح كل التحليلات حول انتخاب رئيس جمهورية وحول التدخلات الدولية المتخيّلة، ثرثرة من باب إضاعة الوقت والتسلّي، ويعود الأمل بخروج لبنان من الحفرة العميقة التي حفرها ورمى نفسه فيها، وما زال يحفر.