مع بداية العام الجديد، تنتظر فرنسا سلسلة تحديات داخلية وخارجية، في ظل الأزمات التي تخيّم على القارة الأوروبية ومن ضمنها انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، وتبعاتها المباشرة على حياة الفرنسيين وعلى القارة الأوروبية والعالم أجمع.ويتصدر المشهد الداخلي مشروع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الهادف إلى إدخال إصلاحات على نظام التقاعد ورفع سن التقاعد إلى 64 عاما بدلا من 62. هذا الإعلان كان له وقع الصاعقة وأثار موجة احتجاجات من قبل النقابات التي دعت إلى تحرك سريع للتعبير عن معارضتها الشديدة له، ويتوقع أن تشهد فرنسا مظاهرات كبرى في الأيام المقبلة، ومقبلة على أزمة تشل الحركة في البلاد. وعبّر كثير من ثلثي الفرنسيين 66%عن معارضتهم للمشروع حسب استطلاع للرأي. وشملت المعارضة السياسية بالإضافة إلى النقابات أحزاب اليمين المتطرف واليسار باستثناء حزب الجمهوريين الديغولي المؤيد لهذه الإصلاحات، الذي بقي الحليف الوحيد للأغلبية الرئاسية. إيمانويل ماكرون يريد أن يجعل إصلاح نظام التقاعد في ولايته الثانية "أم إصلاحاته"، ولكنها ستكون "أم المعارك" للنقابات والمتظاهرين الرافضين للتغيير. وكانت فرنسا شهدت منذ ٣٠ عاما سلسلة إصلاحات لأنظمة التقاعد للاستجابة لتقدم السكان بالسن والتدهور المالي في خزينتها. أزمة تلو الأخرى تخيم على فرنسا في وقت يتركز الاهتمام على مكافحة ارتفاع الأسعار والتضخم القياسي الذي يعاني منه الفرنسيون، وتجنب انقطاع التيار الكهربائي وترشيد الاستهلاك. ويضاف إلى قائمة الهموم الداخلية، الأزمات الملحة في قطاع الصحة ووضع الأطباء العموميين والمستشفيات التي عانت الكثير منذ سنوات عديدة، وتفاقم وضعها خلال جائحة كورونا. وتشمل الصعوبات التي يواجهها هذا القطاع إرهاق العاملين، نقص الأدوية وعزوف الأطباء والممرضين عن العمل. هذا الواقع المرير دفع ماكرون خلال تقديمه التهاني إلى الفرنسيين بمناسبة العام الجديد الحديث عن تصوره للخروج من "أزمة بلا نهاية وقع فيها نظام الصحة الفرنسي"، معربا عن تطلعه "لإعادة تنظيم العمل في المستشفى ابتداء من الآن حتى شهر يونيو المقبل والتسريع في توظيف معاونين صحيين"، إجراءات يرى فيها عدة خبراء أنها غير قابلة للتنفيذ خلال أشهر لأنها جاءت متأخرة في مواجهة حجم المشاكل. خارجيا، تبقى الحرب على أوكرانيا ودعم الرئيس فولوديمير زيلينسكي من أبرز أولويات الإدارة الفرنسية، التي تدرك أن الخروج من النفق المظلم لن يكون قريب الأجل وكذلك الأمر بالنسبة لعقد مفاوضات حسب مصدر رئاسي ذكر أن الاتصالات التي كرسها الرئيس الفرنسي وجهود الوساطة التي قام بها "مع الرئيس الروسي والرئيس الأوكراني لم تحقق ثمارها بسبب موقف موسكو ". أما الموضوع الثاني، خارجيا الذي يحظى باهتمام الدبلوماسية الفرنسية، هو ما يجري داخل إيران في وقت شهدت فيه العلاقات بين باريس وطهران تدهورا ملحوظا أدى إلى احتجاز رهائن وإغلاق معهد الدراسات الفرنسي للعلاقات الدولية في إيران (ايفري)، موقف ترتب عليه استدعاء الخارجية الفرنسية القائم بأعمال السفارة الإيرانية في باريس. ورغم التوتر الكبير الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، يعوّل الرئيس الفرنسي حسب مصادر رئاسية على آلية مؤتمر بغداد الذي انعقد بنسخته الثانية في البحر الميت في الأردن، الشهر الماضي وذلك انطلاقا "من قناعة باريس أنه مهما كان حجم المشاكل وفي ظل غياب التسويات لها، فهناك مكان وأرضية للتشاور والحوار من شأنها أن تخفف من حدة التوترات في المنطقة". ويحرص الرئيس إيمانويل ماكرون على الإبقاء على تواصل دائم مع زعماء المنطقة الذي تربطه بهم علاقات وثيقة. وكانت باريس قد استقبلت تباعا عددا من رؤساء منطقة الشرق الأوسط ودوّل الخليج، يتقدمهم الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والملك عبد الله. الوضع اللبناني المتأزم يحظى أيضا باهتمامات الدبلوماسية الفرنسية التي لم تتوقف يوما عن دعوة المسؤولين اللبنانيين إلى عقد الانتخاب الرئاسية. يذكر أن فرنسا كانت لعبت دورا إلى جانب الولايات المتحدة في المساعدة على التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. ومن المتوقع أن تباشر شركة "توتال إنيرجيز" أعمال التنقيب والحفر فور الانتهاء من الاستعدادات اللوجستية خلال الخريف المقبل. وفي ظل هذه التحديات الخارجية والداخلية، هذا العام لن يكون سهلا على فرنسا وتحديدا على الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي رغم حركته الخارجية المتواصلة، وفي ظل الأزمات الراهنة في الداخل والتي تبقى بدون حلول وخسارته لأغلبية قوية في البرلمان في الانتخابات التشريعية في ولايته الثانية، أمور تشكل مصدر قلق كبير له داخليا، مما دفع ماكرون إلى التأكيد على ضرورة التمسك بالوحدة الوطنية، في ظل وجود معارضة شرسة في البلاد، بعد أن حقق حزب اليمين المتطرف فوزا تاريخيا ممثلا بالتجمع الوطني في البرلمان، وحصول اليسار المتطرف على نسبة كبيرة ممثلا بتكتل "نوبيس" الذي يشمل بقية قوى اليسار والخضر.