منذ استقلال المغرب سنة 1956، مرت العلاقات المغربية الفرنسية بفترات إيجابية كما عرفت الكثير من الهزات التي أدى بعضها إلى تجميد العلاقات وتغيير الشركاء كما حدث أيام الملك الراحل الحسن الثاني، وخصوصا عام 1965 في عهد حكم شارل دوكول De gaulle، بسبب ضلوع المخابرات الفرنسية آنذاك في اختطاف الزعيم اليساري المهدي بنبركة، أو سنة 1990 بسبب صدور كتاب "صديقنا الملك" بفرنسا، والذي أدّى إلى توتر العلاقات مجددا بين باريس والرباط لبضع سنوات.غير أن العلاقات بين المغرب وفرنسا حتى في أحسن فتراتها كانت مشوبة بنوع من التوتر الخفي الذي سببه كون فرنسا لم تستطع التخلص بشكل نهائي من منطق الوصاية في علاقتها بمستعمراتها القديمة، ما كان يلقى من الجانب المغربي الكثير من التوجّس، الذي تزايد في الفترة الأخيرة في ظل حكم الملك محمد السادس، الذي عبر سواء في خطاباته أو أسلوب تدبيره لعلاقاته بجيرانه على الكثير من الطموح لبناء علاقات تبادلية على أساس الاحترام المتبادل والندّية والشراكة الفعلية، وقد دفع إلى هذا الموقف بشكل كبير تطور الأدوار التي صار يلعبها المغرب إقليميا وفي القارة السمراء على وجه الخصوص.من جانب آخر، كان لتوتر العلاقات بين المغرب والجزائر دور كبير في الضغط الذي مارسته الدولتان على حليفهما التاريخي فرنسا، حيث عمل كل طرف على استمالة الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي لجانبها، ما جعل الدولة المعنية تقف باستمرار عند نوع من الحياد الذي أمسكت فيه بموازين القوى من الوسط، حفاظا على مصالحها مع الطرفين.فرنسا تعمل لرأب الصدع بين المغرب والجزائرغير أن التطورات الأخيرة جعلت فرنسا تتحرك بوتيرة سريعة لرأب الصدع الذي ما فتئ يتسع بينها وبين المغرب والجزائر في الآونة الأخيرة للأسباب التالية:تصاعد انتفاضة البلدان الإفريقية بمنطقة "الساحل" جنوب الصحراء الكبرى ضدّ الوجود الفرنسي، خصوصا بعد الانقلابات العسكرية بكل من مالي والنيجر وتشاد وبوركينافاسو، وهو التوتر الذي تحول إلى مدّ شعبي تبنته الفئات الاجتماعية العريضة بتلك البلدان.تواجد المغرب بشكل أكبر في إفريقيا على المستوى الاقتصادي، حيث حلت العديد من البنوك والشركات المغربية محل الشركات الفرنسية ببلدان المنطقة وهيمنت على العديد من الأوراش الكبرى. ولقد كان آخر الأحداث غير المتوقعة في هذا المجال المبادرة المغربية التي بموجبها منح المغرب فرصة الانفتاح على المحيط الأطلسي للعديد من البلدان الداخلية بمنطقة الساحل، وهي المبادرة التي أطلق عليها "مبادرة الأطلسي".تزايد توتر العلاقات بين المغرب وفرنسا بسبب تراجع الأخيرة عن منح تأشيرة الدخول لأراضيها لـ70% من المغاربة الذين تقدموا بطلباتهم إلى القنصليات الفرنسية، بعد أن رفض المغرب تسلم مواطنين من أصل مغربي لم يعد مرغوبا فيهم بفرنسا بسبب موضوع الإرهاب.نجاح المغرب في تقوية علاقاته مع كل من ألمانيا وهولندا وتجاوز سوء التفاهم السابق، الذي كان سببه شعور الطرف المغربي بميل البلدين الأوروبيين جهة الجزائر.إقدام المغرب على خطوة إبرام اتفاقية ثلاثية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، كان من نتائجها الفورية تصعيد جزائري على بوابة الحدود الشرقية، خصوصا بعد تنازل إسبانيا وقبولها ـ في خطوة فاجأت كل دول الجوار ـ بالاعتراف بمغربية الصحراء، ما فتح الباب على مصراعيه أمام إنعاش المبادلات التجارية وإبرام عدد كبير من الاتفاقيات بمنطق رابح ـ رابح بين إسبانيا والمغرب، وجعل بالتالي فرنسا تشعر بأن الكثير من مكتسباتها الاقتصادية في علاقتها بالمغرب قد أصبحت مهددة بالتراجع، خصوصا وأنها تعودت على أن يكون لها نصيب الأسد في المشاريع الكبرى المتعلقة بالبنيات التحتية بهذا البلد.ظهور نزوح مغربي واضح نحو إحلال اللغة الإنجليزية بالتدريج محل اللغة الفرنسية، يدلّ على ذلك البرنامج الذي وضعته وزارة التربية الوطنية المغربية لتعميم اللغة الإنجليزية منذ السنوات الأولى من التعليم، خلافا لما كان عليه الأمر من قبل، وكذلك فتح شعب في الجامعة لتدريس العديد من المواد والتخصصات الهامة باللغة الإنجليزية.هذا دون أن ننسى قضية التجسس المعروفة باسم "ييغاسوس"، التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس بين البلدين، حيث وجهت فرنسا اتهامات للمغرب أنكرها هذا الأخير.قطار العلاقات المغربية ـ الفرنسية على السكةفي هذا المناخ المكهرب، انطلق نقاش كبير بين النخب المغربية والفرنسية حول مستقبل العلاقات بين البلدين، انتهى في الأيام الأخيرة إلى وقائع ومواقف تدفع كلها في اتجاه مصالحة كبرى ممكنة، خصوصا بعد أن ظهرت بعض المؤشرات الإيجابية التي منها:استقبال زوجة الرئيس الفرنسي لأميرتين مغربيتين من أخوات الملك محمد السادس بقصر "الإليزيه".استقبال السفير الفرنسي لبعض أعضاء النخبة المغربية بمقر إقامته بالرباط من أجل تبادل الآراء حول إيجاد مخرج للعلاقات المغربية الفرنسية المتوترة. وهو اللقاء الذي نتج عنه بعد ذلك تصريح هام لنفس السفير بمدينة الدار البيضاء أشار فيه إلى ضرورة أن تتخذ فرنسا موقفا واضحا من قضية الصحراء قائلا: "سيكون من قبيل الوهم تماما وعدم الاحترام، الاعتقاد بأننا سنبني ما آمل أن نكون قادرين على بنائه، لبنة تلو الأخرى، من أجل طمأنينة بلدينا وبعض الجيران الآخرين، دون توضيح هذا الموضوع".استقبال وزير الخارجية الفرنسي من طرف نظيره المغربي خلال الأسبوع للتباحث حول إنعاش العلاقات بين البلدين، وقد ألقى الوزير الفرنسي كلمة أعلن فيها استمرار فرنسا في دعم مقترح المغرب لإقامة حكم ذاتي بالأقاليم الصحراوية، مما جعل جزءا من الرأي العام المغربي يصاب ببعض الخيبة، حيث كان الجميع يتوقع موقفا أكثر وضوحا. ولم يبرز في عناوين اللقاء بين الوزيرين ما يمكن بناء عليه القول بوجود تقارب كبير في القضايا الكبرى الخلافية.من المؤكد أن قطار العلاقات المغربية - الفرنسية سيوضع من جديد على السكة، حيث من الصعب تجاوز أكثر من قرن من الروابط التاريخية لكن هذه المرة بمنطق جديد مغاير، قد يستبدل بالعلاقة التاريخية القديمة علاقة جديدة مبنية على منطق التبادل والشراكة عوض التبعية والهيمنة.