صار مفهوما أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا ينوي تغيير سياسات الولايات المتحدة فحسب، بل هو يسعى إلى تغيير النظام العالمي الذي أرسته واشنطن، بعدما خرجت كأكبر منتصر في الحرب العالمية الثانية واكتسبت لقب القوة العظمى في العالم. يومذاك، أحيا الرئيس فرانكلين روزفلت حلمًا كان قد بدأه سلفه وودرو ويلسون، على إثر الحرب العالمية الأولى، وحاول تشييد نظام عالمي جديد قائم على حكم القانون ولا يتسلط فيه القوي على الضعيف.أميركا دولة من البلطجية؟لكنّ القوى الأوروبية لم تكن مستعدة للتخلي عن أمبراطورياتها، ولا عن حروبها التجارية، فشوّهت عصبة الأمم إلى أن وصل العالم إلى الحرب الكونية الثانية. مجددًا، حاولت واشنطن تشييد عالم على صورتها، فيه دول متفدرلة في منظومة دولية تحمي حقوق الناس والشعوب.اليوم، وبعد 75 عامًا من تشييد النظام العالمي الذي لا يزال قائمًا، وإن مترهلًا وعلى سرير الموت، قرر ترامب أنه نظام لم ينصف الولايات المتحدة، التي تكبدت خسائر من أجل الحفاظ عليه بدون أن تجني عائدات واضحة منه، مادية أو معنوية.لكنّ الرئيس الأميركي عديم الخبرة في شؤون التاريخ والسياسة الدولية، فالنظام العالمي القائم توّج الزعامة الأميركية على العالم، وجعل عملتها الاحتياطي العالمي، وجعل نظامها المصرفي نظام العالم، ونشر ثقافتها على صعيد الكوكب، ولولا هذا النظام، لما كانت أميركا في الموقع المتفوق الذي تشغله اليوم.ترامب يعتقد أنّ العودة إلى الدولة – الأمة، والتنافس بين هذه الدول في سباق لا قوانين فيه ولا إنسانية، فقط حكم الأقوى، هو في مصلحة الولايات المتحدة، وأنه سيعود عليها بمنافع مادية ومعنوية أكبر بكثير. لكنّ ترامب مخطئ، إذ إنّ سرّ تفوّق الولايات المتحدة اقتصاديًا، هو سيادة حكم القانون في سوقها وفي تعاملها مع الآخرين، وهو ما منحها ثقة شبه مطلقة من رأس المال العالمي، الذي يلتجىء اليها كلما شعر بخوف أو أزمة أو اهتزاز عالمي.أما إذا صارت أميركا دولة من البلطجية ممن يحكمون العالم وبلادهم، بحسب قانون القوة لا وفقًا لقوة القانون، فستخسر الولايات المتحدة صورتها كآخر معاقل الاستقرار في أيام الأزمات، وستحول نفسها من أمبراطورية عالمية إلى دولة عادية.والأفكار التي يقترحها ترامب تشي في غالبها أنها ستؤدي إلى ارتدادات عكسية، فالتخلي عن تحالف الأطلسي سيطلق سباقًا للتسلح، وإذا كانت أميركا صممت دفاعها ضد جيشين كبيرين – أي روسيا والصين – فعليها قريبًا أن تستعد لزيادة في عدد الأعداء ومنافستهم وأخطارهم، مثل في إمكانية صعود ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبولندا.ترامب و"طوفان الملعب"وفي الداخل، كما في الخارج، استولت الشعبوية وحب الأضواء على السياسات الراشدة والهادئة، وعليه، عقدت الحكومة الأميركية، يمكن لأول مرة في تاريخها، اجتماع حكومتها أمام الكاميرات وفي بث مباشر في ما يشبه برامج تلفزيون الواقع التي لمع فيها نجم ترامب قبل سنوات. ومن التخبط في السياسات اقتلاع برامج حكومية بشكل مفاجئ، ومن دون استشارة أحد، وبشكل يشي أنّ مشاكل ستنجم في المستقبل القريب عن هذه القرارات المتسرعة.وفي السياسة الخارجية، بدا ترامب متناقضًا مرارًا، فخطته عن تحويل قطاع غزة إلى ما يشبه منتجعات ريفييرا الفرنسية وطرد الفلسطينيين بدت من دون تفاصيل، وكأنه لم يناقش أحدًا بها مسبّقًا، فيما خططه عن ضم كندا أو غرينلاند أظهرت أنّ الرئيس الأميركي ينظر إلى العالم كمقاول، لا كرئيس دولة وأكبر قوة عالمية.ويقول العارفون إنّ ترامب تبنى سياسة "طوفان الملعب"، أي أنه حاول إصدار أكبر عدد من القرارات والسياسات في أيامه المئة الأولى، لأنها الفترة التي يفترض أن تكون العيون فيها مسلطة على الرئيس وإدارته أكثر من باقي فترة حكمه. ربما دفع سعي ترامب إلى الحكم على طراز تلفزيون الواقع إلى تبني قرارات قد تؤذي شعبيته لاحقًا، إذ من شبه المؤكد أن يؤدي تخفيض الإنفاق الحكومة بواقع ترليون دولار (من 7 ترليونات تنفقها أميركا سنويًا) إلى رفع معدل البطالة وخفص نسبة نمو الناتج المحلي، وانكماش من هذا النوع يؤذي ترامب، الذي كان أعلن نفسه مخلّصًا للأميركيين وشكواهم من التضخم الاقتصادي الذي قضى على رئاسة سلفه جو بايدن.في أيامه المئة الأولى، لا يبدو أنّ ترامب يسير على خطة واضحة المعالم، بل هو يمارس حكمه أمام الكاميرا فقط، ولهذا، صارت أميركا والعالم تشبهان عالم ترامب الذي ترعرع وأمضى حياته فيه، عالم مدينة نيويورك المكتظة التي يتدافع فيها الناس ليل نهار ويتسلبطون فيها على بعضهم البعض. ونيويورك هي مدينة المافيا الإيطالية التي ألهمت قصة الفيلم الشهير العرّاب.هكذا، يتحول العالم مع ترامب من النظام العالمي الذي أرسته الولايات المتحدة إلى عالم يحكم فيه القوي الضعيف، على شاكلة مدينة نيويورك الأميركية، وبهذا، يكون ترامب قد حوّل النظام العالمي الجديد إلى عالم جديد من دون نظام.