- ما هي مرجعيتك في اتخاذ هذا القرار؟- مرجعيتي في اتخاذ هذا القرار هي السلطة الأميركية. عندما أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا التصريح، بعد حديثه عن خطة تهجير سكان قطاع غزة، تسابق المحللون ووسائل الإعلام لوصف كلامه بأنه تجسيد لدخول الولايات المتحدة الأميركية، ومعها العالم، عصرا جديدا عنوانه الفوضى، خاصة مع تجاهل ترامب لكل المؤسسات الدولية وأبجديات القانون الدولي في "قراره"، وقد تعزز هذا الطرح مع تراجعه فيما بعد عن تصريحاته (بغض النظر عن الأسباب الظرفية لذلك)، وأيضا عندما تحول استقباله الرسمي للرئيس الأوكراني إلى مشهد درامي شاهده العالم بأسره، دون أدنى قدرة على التصديق. فهل نعيش فعلا عصر أخطر فوضى عرفها تاريخ الإنسان الحديث؟ تزامن وصول ترامب إلى البيت الأبيض في عهدته الثانية مع صعود موجات شعبوية، وانتصارات متلاحقة حققتها أحزاب يمينية متطرفة في أوروبا، كما عادت المنافسة الحادة بين القوى الدولية الكبرى لتحتل صدارة المشهد، وهو ما يفتح المجال واسعًا أمام تساؤلات حاسمة حول موقعنا الحالي في التاريخ: هل يمكن القول إن ما نمرّ به اليوم أخطر بكثير من حقبٍ ماضية، شهدت حروبًا مدمّرة وأزمات بنيويّة كبرى؟ وهل يمكن لنظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية تقديم تفسيرات لطبيعة الوضع الحالي؟ عودة ترامب: استمرارية أم عود على بدء؟ مع انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي وبداية عصر هيمنة القطب الأميركي الأوحد، اعتاد النظام الدولي على دور أميركي قيادي في إدارة الأزمات وحفظ التوازنات بين القوى العظمى، لكنّ تغيرات سياسية واجتماعية عميقة داخل الولايات المتحدة ساهمت في صعود شعار "أميركا أولا"، ثم "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" الذي تبناه ترامب في حملاته الانتخابية. وهكذا عايش العالم تجربة سابقة لترامب بين عامي 2017 و2021، تميّز خطابه خلالها بسياسات شعبويّة وانعزالية، وبرزت بوادر تشكيك بدور المؤسّسات الدولية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية. فانسحب ترامب من بعض الاتفاقيات الدولية، وشن حربا تجارية قاسية ضد الصين، ثم أتت جائحة كورونا لتزيد من تعقيد المشهد. استطاع جو بايدن الفوز بانتخابات صعبة تفوق فيها بفارق ضئيل على ترامب، وبدا جليا أن تلك الفترة قد شهدت محاولات دؤوبة للحفاظ على الدور الأميركي التقليدي، ومحو آثار القرارات الترامبية الأولى، لكن تفاصيل داخلية، وتداعيات عديدة لنزاعات عالمية وطبيعة الدور الأميركي فيها (الحرب في قطاع غزة كأبرز مثال) أعادت ترامب "بسهولة" إلى البيت الأبيض مطلع العام الحالي، وقد اتضح منذ أسبوعه الأول في عهدته الثانية مضيه في تنفيذ وعوده الانتخابية، والوفاء لشعاره الأثير، ما تسبب في تضعضع تحالفات تقليديّة، وتشجيع قوى تقليدية وأخرى صاعدة على اختبار نفوذها، مع تعزز الاعتقاد بتراجع أو حتى غياب الدور الأميركي، ما أضفى بالتالي شعورًا عامًّا بالفوضى على الساحة العالمية. نظرة على الماضي: ماذا عرف العالم من قبل؟ مع تفكك الإمبراطورية الرومانية، عاشت أوروبا خلال القرون الوسطى مرحلة غلبت عليها الولاءات الإقطاعيّة المتباينة والحروب المتفرّقة، فغابت سلطة مركزية جامعة في العديد من الأقاليم، وساد نظام معقّد بتحالفات هشة، ما ولّد إحساسًا مستمرًّا بالاضطراب والفوضى. وفيما بعد، خلال عصر النهضة، عرفت أوروبا تطوّرات ثقافية وعلمية هائلة، لكن الصراعات الدينية الدامية بين الكاثوليك والبروتستانت، والتي بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) تركت أثرها الواضح على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. في العصر الحديث، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد النصف الثاني من القرن العشرين أزمات عالمية حادّة، يمكن إدراج أزمة الصواريخ الكوبية (1962) ضمن أبرزها، حيث حبس العالم أنفاسه، وسط توقعات باندلاع حرب نووية شاملة لن تنتهي إلا بفناء الكوكب والوجود البشري. تؤكد هذه الأمثلة إذن أن الفوضى أو "اللانظام" ليست ظاهرةً مستحدثة، بل تتكرر غالبا مع بوادر انهيار نظم قديمة وظهور قوى جديدة تتنافس على بسط نفوذها، تمامًا كما قد نرى اليوم في النظام الدولي، مع تحدي قوى كالصين وروسيا (وبعض التكتّلات الإقليمية الأصغر) للهيمنة الأميركية والغربية التقليدية. فوضى الأخبار والمعلومات: هنا مكمن الداء؟ ربما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها التجسيد الأمثل لما وصله تطور تكنولوجيا المعلومات، دورا في ترسيخ الشعور بالفوضى، فكل الأخبار حاليا تنتشر على نطاق عالمي في غضون لحظات فقط، وقد يفتقد بعضها (أو حتى معظمها) إلى الدقّة، أو تعاد صياغتها بما يخدم أجندات سياسية وإيديولوجية موجهة، وهكذا تحولت شبكة الإنترنت إلى متنفس كبير للهواجس والادّعاءات، فتكون النتيجة عكسية بمضاعفة التوتر وزيادة الشعور بانعدام الثقة، ولأن عجلة التكنولوجيا تواصل دورانها، أتى الذكاء الاصطناعي (وما يصاحبه من تقنيات مرعبة) ليساهم في خلق ما يشبه عوالم موازية عمادها المعلومات الخاطئة والمضللة، فيهيمن بالتالي يقين بأن الواقع آخذٌ في الانفلات. ما العمل؟بين من يعوّل على مفهوم قوّة المؤسّسات والتعاون الدولي (رغم كل الضربات التي تلقاها مؤخرا)، ومن يرى المنافسة الصارمة قانونا لا فكاك منه (رغم كل ما بشرت به حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة من كلام عن نهاية التاريخ)، ومن يعتقد بأنّ الأفكار والقيم والتصورات قد تغيّر طبيعة الفوضى، تبقى إرادة الفاعلين الدوليين والشعوب قادرة على صياغة نظامٍ دولي جديد أكثر استقرارًا أو أقلّ اضطرابًا، إن توفّرت الرؤية والإرادة الجماعية لفعل ذلك، وإلى ذلك الحين، ستواصل وسائل الإعلام نقل تصريحات ترامب المتناقضة والمتضاربة كأخبار عاجلة، وسيتعب المحللون السياسيون في بلاتوهات الأخبار، محاولين النفاذ إلى عقل رجل لطالما اعتاد على رؤية العالم بأسره من منظور البحث فقط عن الصفقات الرابحة.